الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 13 أغسطس 2024 - 9 صفر 1446هـ

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيَّة: الأستاذ محمود محمد شاكر) (8)

كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فبعد أن رأى هذا الشَّابُّ أنّه مِن القادرين على النَّجاحِ والتَّغيير، وأنّه ينبغي عليه ألَّا يَعْرِفَ إلا ما يراه حقًّا، وألَّا يُرْغِمَهُ شيءٌ على تَعَلُّمِ ما لا يُعْجِبُه، فارق الجامعةَ، بل عزم على مُفارقةِ مِصرَ كُلِّها.

وشرع يعد أوراقَه التي تُتِيحُ له السَّفرَ إلى خارجِ مِصرَ، مِثْل شهادة الموقف مِن الخدمة العسكرية، وجواز السَّفر، وغيرها مِن الأوراق، ولكن لا تزال محاولاتُ والدِه الشَّيخِ محمد شاكر مستمرةً في محاولةِ إقناعِه بالرُّجُوعِ عن قرارِ تركِ الجامعة.

فيَقُولُ الأستاذُ محمود عن هذه المحاولات: "أخبرني والدي أنّ الأستاذَ نلِّينو جاء نائبًا عن الدُّكتور طه، وأنّ الدُّكتور طه استحسن ذلك؛ لأنه كان أستاذَه، وهو اليوم أستاذي أيضًا. وقال: إنّه دعا الأستاذَ نلِّينو والأستاذَ جويدي على الغداءِ عندنا بعد غدٍ.

جاء هذا الغَدُ، وعُدتُ إلى البيتِ بعد الظُّهر، لِأجدَ الأستاذَين نلِّينو وجويدي ومعهما أكثرُ مِن عشرينَ ضَيْفًا كُلُّهم كان يَعرِفُني، وهم مِن الأساتذةِ في دارِ العُلُومِ، ومدرسةِ القضاءِ الشَّرعيّ، وفي الأزهرِ، وآخَرينَ مِن أساتذتِنا الكبارِ في ذلك العهدِ.

وبعد الغداءِ وقعتُ بين المِطْرَقة والسَّنْدان، كُلٌّ يَتكلَّمُ مُسَفِّهًا لي ضِمْنًا أو علانيةً، وأنا أَرُدُّ مرَّةً وأسكتُ مرَّاتٍ حتى بلغ منِّي الجهد.

وأخيرًا: وقف الأستاذُ نلِّينو فجأةً ووجَّه الحديثَ إلى أبي، وقال: إنّ واجبه ديانةً (غريبة!) أن يمنعَ ولدَه مِن السَّفر، فقال له أبي -رحمه الله-: لا آمُرُ ولدي على شيء، وقد حاولتُ أن أُقْنِعَهُ بالحُجَّةِ بعد الحُجَّةِ فلَم يقتنع، وها هو ذا بين يديك، فإن استطعتَ أن تَبلُغَ في إقناعِه ما لَم أَبلُغْ فقد شفيتَ صدري وأرَحْتَني، أمّا القَسْرُ فلا قَسْرَ عندي -يا أستاذ نلِّينو-.

فالتفتُّ إلى نلِّينو، وأَطْبَقَ عليَّ إطباقًا خانِقًا، فلَم أَجِدْ لي مخلصًا مِن قَبْضَتِه إلا المصارحة، فقلتُ له: نعم أنا مُقتنِعٌ بكُلِّ ما تَقولُه عنِّي وعن تَسَرُّعِي وتَهَوُّرِي ومُخاطَرتِي بمستقبلي، ولكنِّي لَم أَكُنْ كما وصفتَ إلا لِشيءٍ واحدٍ، وهو أنّ معنى "الجامعةِ" في نفسي قد أصبح أنقاضًا ورُكامًا، فإن استطعتَ أن تُعِيدَ لي البِناءَ كما كان فأنا أَوَّلُ ساكنٍ يَدخُلُه لا يُفارِقُه، فقال: ما هذا؟ ماذا تعني؟

قلتُ: أنت تَعلَمُ أنِّي بقيتُ معك في الجامعةِ سنتَين لَم أبرح، وتَعلَمُ ما كنتُ أَقُولُه عن "مسألةِ الشِّعر الجاهليّ" التي نَسمَعُها في مُحاضَراتِ الدُّكتور طه، وأنّ هذا الذي نَسمَعُه ليس إلا سَطْوًا مُجَرَّدًا على مقالةِ مرجليوث، وأنت وجميعُ الأساتذةِ تَعلَمُون صِحَّةَ ذلك، وفي خلال السَّنةِ الماضيةِ نُشرت كتبٌ ومقالاتٌ في الصحف تكشف ذلك أَبْيَنَ كَشْفٍ، ولكن لَم يكن لهذا الكشفِ عندكم في الجامعةِ صدًى إلا الصَّمْت، فهذا الصَّمْتُ إقرارٌ مِن الجامعةِ وأساتذتِها بهذا المبدأ، مبدأ السَّطْو.

قد مضت عليَّ سنتانِ صابرًا، أمّا الآن لَم أَعُدْ قادرًا على التَّوفيقِ بين معنى "الجامعةِ" في نَفْسِي وبين هذا المبدأِ الذي أَقْرَرْتُمُوه" (انتهى).

ونكمل الحكايةَ في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-.

ونسأل الله التوفيق.