الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 29 يوليه 2024 - 23 محرم 1446هـ

مشكلات التربية في مرحلة الطفولة (16) مشكلة الغيرة (1)

كتبه/ عصام حسنين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد جرت -منذ مدة- وقعة إجرامية بشعة لا تصدق بمنطقة العامرية بمحافظة الإسكندرية؛ حيث أقدم ثلاث طالبات بالمرحلة الإعدادية على دس السم لزميلاتهن المتفوقات؛ لتعطيلهن عن دخول الامتحان؛ لكي لا يكون بالقرية متفوقات غيرهن! فقمن بشراء ثمان قطع جاتوه، ومادة شديدة السمية، ثم قمن بوضع السم في ثلاث قطع وعلَّمنها بعلامة؛ هكذا زين لهن الشيطان -لعنه الله-.

 وفي اليوم التالي وهن راجعات من المدرسة، قدمن القطع السليمة لغير المقصودات، ثم قدمن للمقصودات القطع المسمومة؛ فتوفيت إحداهن في الحال، وأصيبت الثانية بفشل ُكلوي، وأمكن إسعاف الثالثة.

هذه الجريمة النكراء سببها الأكبر: الحقد والحسد الناتج عن الغيرة المذمومة، التي عُمقت في نفوسهن؛ نتاج تربية: فلانة أحسن منك، وفلانة متفوقة عنك، وإذا لم تتفوقي عليها؛ سيكون كذا وكذا من العقاب... وانظري فلانة تحتفل بها القرية لتفوقها؛ أي: المقارنة بالآخرين التي ولَّدت هذه الغيرة المذمومة التي تحولت إلى حسد وحقد أدى الى هذه الجريمة، وإنا لله وإنا إليه راجعون؛ لذلك ولغيره كان هذا المقال الذي يعالج الغيرة كمشكلة من مشكلات الطفولة، والتي يحتاج فيها المربون إلى معرفة الفارق الكبير بين الغيرة المحمودة والغيرة المذمومة، وكيف نعمّق المحمود، وكيف ننفر ونعالج المذموم، والله المستعان.

أولًا: تعريف الغيرة لغة واصطلاحًا:

يدور تعريف الغيرة في اللغة على معنيين: الأول: الحمية والأنفة، وغيرة الرجل على امرأته وحريمه، وكراهة مشاركة غيره في حقه.

يقال غار على امرأته: ثار من الحمية، وكره مشاركة غيره في حقه، وهي بذلك مأخوذة من مادة تدل على الصلاح والإصلاح. والثاني: الحزن لنعمة أصابت غيره. وأما اصطلاحًا على المعنى اللغوي الأول؛ فهي كراهة اشتراك الرجل غيره فيما هو من حقه؛ قاله الكفوي.

وذكر الرجل هنا على سبيل التمثيل، وإلا فالغيرة غريزة يشترك فيها الرجال والنساء، بل قد تكون في النساء أشد! فقد غارت عائشة -رضي الله عنها- على النبي -صلى الله عليه وسلم-، والعرب تقول في أمثالها: "أغيرُ من الحُمَّى"؛ أي: أنها تلازم المحموم ملازمة الغيور لبعلها (لسان العرب، ومختار الصحاح).

وهذه من الغيرة المحمودة إذا كانت في الريبة، وهي صفة يحبها الله -تعالى- في عبده؛ لأنها من صفته على ما يليق بكماله، وغيرته -تعالى- أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (‌إِنَّ ‌اللهَ ‌يَغَارُ، ‌وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللهُ) (متفق عليه)، وهذه تحتاج إلى التربية الإيمانية التي تجنبه محارم الله -تعالى-، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (‌مِنَ ‌الْغَيْرَةِ ‌مَا ‌يُحِبُّ ‌اللَّهُ ‌وَمِنْهَا ‌مَا ‌يُبْغِضُ ‌اللَّهُ، فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

فقوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ)؛ أي: يغار الرجل إذا رأى من محارمه أو غيرهم فعلًا محرمًا، فينزعج من ذلك، ويمنعهم منه، (وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ): كأن يغار الرجل إذا رأى أمه تزوجت أو غير ذلك مما هو حلال، فينزعج من ذلك، ويريد منعه.

ومن فوائد الغيرة: صيانة الأعراض، وحفظ الحرمات؛ قال علي -رضي الله عنه-: "ما زنى غيور قط"؛ لأن الغيور لا يرضى لنفسه ما يأباه لغيره؛ تعظيمًا لشعائر الله وحفظ حدوده. والمؤمن الحق يغضب إذا انتهكت محارمه؛ لذلك فهو يعظم شعائر الله ويحفظ حدوده، ويسعى لنشر الفضيلة في المجتمع وتطهيره من الرذيلة، كما أنها دليل على قوة الإيمان ورسوخه في القلب، ومظهر من مظاهر الرجولة الحق.

وعليه؛ فيجب أن يُربَّى الطفل عليها باعتدال في موضعه، وأن تُعمق في نفسه؛ فيغار على نسائه أمه وأخته وسائر محارمه أن يراهن أحد من غير المحارم، وأن يقوم على حفظهن وصيانتهن عن التبذل؛ بالسعي في حاجياتهن، وأن يحفظ حرمات الآخرين وأعراضهم؛ ليحفظ الله عرضه، ومن ثَم تُحفظ الحرمات، ويُوقى المجتمع شر فتنة النساء.

ويجب أن يُجنب الغيرة المذمومة التي يبغضها الله تعالى، وهي الغيرة في غير الريبة، وهذه نتكلم عنها في المقال القادم.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.