(من تراث الدعوة)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى-: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا. عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) (الإسراء:4-8).
قدَّر الله أن تساء وجوه أقوام على يد كافرين وظالمين، وصفهم الله بأنهم أولو بأس شديد "بختنصر"، ومن بعده الذين خربوا بيت المقدس، وقدَّر أن يدخل هؤلاء الكافرون المسجد الأقصى الذي شرَّفه الله -عز وجل- ويدمروا كل ما استولوا عليه (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا)، كل ذلك لماذا؟! (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ)، قدَّر الله ذلك لرحمةٍ أرادها -عز وجل- بالمغلوبين المظلومين؛ لأنهم سبق منهم من الذنوب ما يهلكهم؛ فأراد الله أن يرحمهم، ولا سبيل إلى ذلك في حكمة الله -عز وجل- وعلمه السابق إلا بأن يسلِّط عليهم مَن ينكل بهم، ولكنه هو أرحم الراحمين.
وتأمل دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وتأمل قول الله -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)، فلابد أن نتوب إلى الله -عز وجل- عسى ربنا أن يرحمنا بعد ما حلَّ ببلادنا من البلاء، ولا بد أن نعلم أن حكمة الله -عز وجل- بالغة، وأن قدره سابق، وأن وجود سفك الدماء الذي يبغضه الله وحرمه شرعًا -ومع ذلك- قدَّره لوجود عبادات أخرى من عبادٍ له مؤمنين: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30)، قال غير واحد من السلف: "يعلم أنه سيوجد منهم النبيون والعباد والزهاد والعلماء، والآمرون المعروف والناهون عن المنكر"، توجد المنكرات والمؤمن هو المقصود منها؛ ليس المقصود أن يقع فيها، ولكن المقصود أن يكرهها وينكرها، ويسعى إلى إزالتها بالوسائل التي شرعها الله -عز وجل-.
وكما أن الله -عز وجل- قدَّر أن ألم الجوع يدفع بالأكل، وأن ألم العطش يدفع بالشرب، هكذا قدَّر الله لكل شيء أسبابًا، وشرع لنا أن نأخذ بها لنصلح واقعنا، فالله -عز وجل- لا يحب الفساد، وقد أوجب علينا أن ننظر في مآلات الأمور وعواقبها، وهذا يقتضي دراسة للشرع وسنن الأنبياء والاقتراب من كتاب الله -عز وجل-، ومن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته، ثم دراسة الواقع.
ولنتأمل في قصة موسى -عليه السلام -وبني إسرائيل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:4)، هل نحتمل مثل هذا الاستضعاف؟! أن تتم المتابعة قبل الولادة، وتُسجل كل امرأة حامل فإذا قرب وقت ولادتها مروا عليهم كل حين لينظروا أين ذهب الحمل، فإذا كان ذكرًا دخل الذبَّاحون بشفراتهم ليذبحوا مَن؟! الرضيع!
تخيل هذه المسألة... ما ذنبه؟!
لم يخرج من بيته، لم يشهر سلاحًا، لم يعترض حتى بكلمة... ولكنه الطغيان والجبروت؛ ليس إلا إرادة التجبر والتكبر، واستضعاف طائفة بأن تكون ذليلة مهانة؛ ليس لشيء إلا لأنها آمنت بالله، أو إن منها مَن آمن بالله، فيدخل الذباحون فيذبحون الذكور ويتركون الإناث للخدمة والذل، وليتخيل الواحد منا ابنته الكريمة العزيزة عنده تؤخذ منه لتخدم الكفرة المجرمين، وليتصور أمة عامتها إناث بلا ذكور كيف يكون حالها؟!
وقد استمر هذا الاستضعاف مِن قبْل ولادة موسى -عليه السلام- إلى أن جاء -عليه السلام- بعد حوالي 40 سنة، فكانت رحلة طويلة من الاستضعاف!
نجَّى الله موسى -عليه السلام- بقدرته عندما أوحى الله إلى أمه: (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:7)، ولنتأمل في حكمة الله -تعالى- فيما هيأه لبني إسرائيل بعد أكثر من 40 سنة، هيأ لها نصرًا وتمكينًا بدأ بولادة في عام الخطر والقتل، ولادة يُخشى منها، ولادة مَن لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، ولا يملك له أهله شيئًا، رميه في البحر مفسدته أقل من مفسدة حضنه في بيت أبيه وأمه! (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ . فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) (القصص:7-8)، منة من الله -عز وجل -على موسى -عليه السلام-، ومنة سابقة منه -عز وجل -على بني إسرائيل، وهو يريد -عز وجل- نجاتهم على يد موسى -عليه السلام-، وقبل أن يذكر الله -عز وجل- نجاتهم وقبل أن تقع هذه النجاة بـ40 سنة أو أكثر، قال -تعالى-: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:5-6)؛ وقع ما كانوا يخافون منه ويحذرون، فالحذر لا يغني عن القدر (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) (القصص:8).
كبر موسى -عليه السلام- في بيت فرعون بحرمان ظاهر كان سببًا في عطاء مستمر: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ)، أتوا بالمرضعات يريدون أن يرضعن موسى -عليه السلام-، وموسى -عليه السلام- يأبى، يوشك أن يهلك، والحقيقة أن الحياة تكتب له بهذا الحرمان (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ . فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ . وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص:12-14)، فإذا كنتَ تريد الحكم والعلم في مواطن الشبهات والفتن فأحسن في عبادة الله (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأن تحسن في معاملة الخلق (وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني)، وحُسْن الخلق حتى مع الكفار يثمر ثمرات عجيبة!
ولننظر كيف أثمر تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة الذي أسرته خيل المسلمين؟ ربطه النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد ثلاثة أيام لا يكلمه في شيء إلا: "(مالك يَا ثُمَامُ هَلْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْكَ؟) فَقَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تَعْفُ تَعْفُ عَنْ شَاكِرٍ، وَإِنْ تَسْأَلْ مَالاً تُعْطَهُ، فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ مَرَّ بِهِ، فَقَالَ: مالك يَا ثُمَامُ؟ قَالَ: خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تَعْفُ تَعْفُ عَنْ شَاكِرٍ. وَإِنْ تَسْأَلْ مَالاً تُعْطَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قَالَ أَبُو هُرْيَرَةَ: فَجَعَلْنَا الْمَسَاكِينُ نَقُولُ بَيْنَنَا: مَا نَصْنَعُ بِدَمِ ثُمَامَةَ؟ وَاللَّهِ لأَكْلَةٌ مِنْ جَزُورٍ سَمِينَةٍ مِنْ فِدَائِهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ دَمِ ثُمَامَةَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ مَرَّ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (مالك يَا ثُمَامُ؟) قَالَ: خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تَعْفُ تَعْفُ عَنْ شَاكِرٍ، وَإِنْ تَسْأَلْ مَالاً تُعْطَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَطْلِقُوهُ قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ يَا ثُمَامُ).
فَخَرَجَ ثُمَامَةُ حَتَّى أَتَى حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ فَاغْتَسَلَ فِيهِ وَتَطَهَّرَ، وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- وهو جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، لَقَدْ كُنْتُ وَمَا وَجْهٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، وَلا دِينٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، وَلا بَلَدٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، ثُمَّ لَقَدْ أَصْبَحْتُ وَمَا وَجْهٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، وَلا دِينٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، وَلا بَلَدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" (أسد الغابة لابن الأثير، وأصله في الصحيحين).
أطلقه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أنه صاحب مال كثير، وقتله فيه غيظ للكفار، لكن هناك رسائل ترسل عبر القلوب تأسرها، كان ثمامة يسمع إعلامًا مضللًا، ولا يعلم حقيقة هذا الدِّين، فلما ظل ثلاثة أيام يسمع القرآن، ويرى المصلين، ويعرف حقيقة الإسلام؛ تغير تمامًا؛ كل هذا بالخُلُق الحسن، بالمن، بالعطاء، تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك مع ثمامة -رضي الله عنه- وكان كافرًا؛ فكيف بأهل الإسلام؟! الأهل، الجيران، الأقارب، أهل الوطن الواحد الطيبون في معظمهم، وإذا كان هذا الإحسان لمن أساء، فكيف بمن لم يسئ؟! فينبغي علينا أن نحسن ألفاظنا وأفعالنا، نطهر صدورنا وقلوبنا، والحوارات التي تجري بين الناس لا تسمع فيها إلا السب والشتم والاختلاف، والتهديد بالقتل، ويا للأسف يوجد مَن يقتل بدم بارد، ولا يشعر بألم حين يقتل كأن هذه النفوس لا تؤثر فيه! وهذا هو الجبروت -نسأل الله أن يعافينا وأن ينجي بلادنا من كل جبار عنيد-، لكن ذلك لا يمنع الإحسان إلى الخلق، فإن ذلك يجعلك تبصر عند الفتن (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.