كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فبعد الهزيمة العسكرية الساحقة للرومان على أيدي المسلمين -رغم تفاوت العدد والعدة-، انسحب الرومان من الشام ومصر إلى أوروبا، فاقدي الأمل في السيطرة على مصر والشام اللتين كانتا سلال الغلال لأوروبا.
وعاشت أوروبا قرونًا من الرعب، والجيوش الإسلامية تدق مرة بعد أخرى أبواب القسطنطينية حتى أوشكوا أن يفتحوها أكثر من مرة، وكانت المفاجأة أن المسلمين انتهوا من فتح شمال إفريقيا، ومنها عبروا إلى أوروبا من جهة جنوبها الغربي، وأنشأوا حضارة الأندلس الغنَّاء.
فلم يجد الأوروبيون بدًّا من أن يستفيدوا من هذه الحضارة الفتية؛ فأرسلوا وفودهم إلى الأندلس للتعلم، ولكنهم كانوا يعودون منبهرين بكل ما رأوه في الأندلس، ولكن كان جانب الانبهار الأخطر بالنسبة للغرب هو العقيدة وفطريتها، وسلامتها مما يناقض العقل وبُعدها عن مسالك الوثنية، ومن هنا نشأت في القرن العاشر الميلادي أولى حركات الاستشراق، وهي حركة كان غرضها الأول التعلم الدنيوي من المسلمين؛ ولذلك كانت نبرتها هادئة، ولكنها أيضًا حاولت أن تقدِّم نقدًا دينيًّا لدين الإسلام، وهو لم يكن نقدًا بمقدار ما هو إثبات أن الإسلام كعقيدة وشريعة ومنهج ليس بأكثر تميزًا من "النصرانية".
أخذت هذه النزعة النقدية تنمو حتى بلغت أوجها في القرن الثاني عشر الميلادي وكتمهيد للحروب الصليبية، وفيه ارتفعت وتيرة الكذب إلى حدِّ الزعم أن المسلمين يعبدون محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وأن دينهم وثني محض، منقول من الوثنيين، مع بعض إضافات من كتب اليهود والنصارى!
ثم بعد انكسار الحملات الصليبية وسرقتها لكثير من المخطوطات في طريق عودتها ازداد شغف المستشرقين الأوروبيين بعلوم القرآن والحديث، والسيرة والفقه، ووقفوا كثيرًا عند علم مصطلح الحديث، وعلم أصول الفقه، وتوجهت كثيرٌ من دراستهم أيضًا إلى محاولات الزعم أن المسلمين لم يقدموا جديدًا في حفظ دينهم أكثر مما فعله النصارى؛ فدسُّوا الأكاذيب حول جمع القرآن وكتابته وقراءته، وحول جمع السنة من باب أولى، وهكذا...
ثم جاءت الثورة العالمانية في أوروبا كردِّ فعلٍ لما في كتبهم من مخالفة العقل، ومخالفته للعلم الحديث، ولوقوف كنيستهم حجر عثرة في طريق التقدم العلمي؛ فكانت العالمانية في موجتها الأولى محارِبة للدين تمامًا، متبنية للإلحاد فأنكرت وجود خالق للكون، ثم مالت للتصالح مع الدين بشروط، أهمها:
- تقرير كون العقل مقدمًا على الدين (مع التسليم بأنهما يتعارضان حتمًا في مواطن كثيرة).
- تقرير أن العلم يقدَّم على الدين؛ حتى شمل هذا علومًا ليست قطعية، بل واحتمال خطئها أكبر كبحث دنيوي مجرد، مثل: نظرية داروين.
- تقرير أن الدين لا يتضمن تشريعًا أو أن تشريعه ليس ملزمًا، وقد تداخلت مع تلك الموجات العالمانية حروب ضروس خاضتها أوروبا، بعضها داخلي كما كان في الحروب الداخلية في إنجلترا، وبينها وبين إيرلندا، وحروب المستعمرات الأمريكية مع إنجلترا، والحرب الأهلية الأمريكية، وبعضها كانت حروبًا أوروبية واسعة النطاق، وكان من آخرها الحربان العالميتان.
ومِن ثَمَّ بدأت أوروبا تتبنى خطابًا يجرم الانتصار للدين؛ ليس فقط بالحروب، بل الانتصار له بالدعوة إليه وبيان محاسنه.
وهذا ملخَّص لما فعلته أوروبا بدينها:
1- قام بولس بنشر النصرانية في بلاد أوروبا، ولكنه لما وجد إعراضًا من أوروبا الوثنية عن دعوته، أعاد صياغة قصة عيسى -عليه السلام- ليركبها مع أساطير الوثنيين القائلين بحلول الآلهة في البشر أو التحول من إنسان إلى إله، والعكس! ولهذا الاعتقاد جذور عميقة في الفكر اليوناني ثم الروماني.
2- فرض الإمبراطور قسطنطين هذا الدين بهذا التصور، ولم يكن هذا الأمر محل إجماع في البداية؛ فقد بقي مَن يدعو إلى دين عيسى -عليه السلام- كما هو على التوحيد، وكان منهم أريوس بالإسكندرية بمصر، وكان أتباعه بمصر والشام، وقد يكون هو المعنى بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لهرقل: (فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ) (متفق عليه)، ولكن هذه الطائفة قُتِلت عن بكرة أبيها.
3- بعد المعركة بين الدين من جهة، والعقل والعلم من جهة، استحدث الغرب في دينه عدة أمور، منها ما يلي:
4- عالجت الكنيسة الانقطاع بين كُتَّاب الأناجيل وبين عيسى -عليه السلام-، بدعوى أن الروح القدس كان يحل بكتبة الأناجيل، فهي وحي خاص لكتاب الأناجيل! ولكن بعد طوفان العالمانية ومناقشة حجج هذا القول، ولماذا اختيرت أربعة أناجيل من السبعين التي كانت منتشرة طالما أنها تكتب بوحي من الروح القدس؟ فضلًا عن التساؤل عن النص الموحَى: هل هو النص السرياني أم ماذا؟ ومدى عصمة الترجمة، إلى آخر هذه الأسئلة... في النهاية قبلت كل الكنائس الأوروبية تقريبًا بأن كتابهم المقدس لم يكن مقدَّسًا من جهة الرواية، وأنه زيد فيه ونقص، ومِن ثَمَّ فهو قابل للنقد من هذه الحيثية.
5- وفوق هذا: قُبِلت الدعوى بأن الله أنزل على أنبيائه في كتبهم المقدسة كتبًا احتوت على أساطير، كان الناس يروونها (وهي كاذبة)، فأعاد الله إنزالها على أنبيائه ورسله، ويبدو أن هذه كانت المخرج الوحيد لوجود بعض القصص التي ثبت يقينًا عدم صدقها؛ لمخالفتها للحس أو العلم، مثل: قصة أن يعقوب -عليه السلام- استطاع استيلاد غنم منقطة عن طريق ترقيش العشب المقدَّم لها.
6- وأما مسألة أن كتابهم المقدس لا يحتوي على تشريع، فقد احتمت الكنيسة بنصٍّ في الأناجيل منسوب لعيسى -عليه السلام- يقول فيه: "أعطِ ما لله لله، وما لقيصر لقيصر".
7- إلا أن العالمانيين لم يقنعوا بهذا حتى قرروا أن الكتاب المقدس كتاب تراثي رمزي؛ لكل جيل إعادة تشكيله تمامًا وَفْق علومهم وثقافتهم ليكونوا غير ملتزمين بتصديق أخباره، ولا تطبيق أحكامه، وبالتالي اعتبروا -مثلًا-: قصة خلق آدم -عليه السلام- قصة رمزية تمامًا، وبالتالي فالمصدر العلمي عندهم في خلق الإنسان هو نظرية داروين.
8- كانت الموجات العالمانية في بدايتها إلحادية، وبالتالي أيضًا تم إعادة تفسير النصوص التي تنادي بلعن مَن يخالف عقائدهم أنها نصوص رمزية وقرروا حق الاعتقاد، ومنه أيضا حق الإلحاد (تقدم بيان أن أوروبا في مرحلة تبنيها للنصرانية كانت تعادي الإسلام من منطلق ديني سياسي، ومن تخبطهم أنهم بعد العالمانية يعادون الإسلام من منطلق ديني نصراني، ومن منطلق عالماني، ومن منطلق سياسي).
9- مفكرو العالمانية -كما ذكرنا- بعضهم معادٍ للتدين جملة وتفصيلًا، وبعضهم منشغل جدًّا بالمشترك الديني كنوع من تقديم دين لمن يرغب في التدين بدين لا يسبب حروبًا، ولا يلزم بتصديق أخبار، ولا بطاعات، أو تشريعات. وهؤلاء ينشغلون بتجارب الصوفية باعتبارها نزعة فلسفية وجدت في كل الأمم، بل البصمة النصرانية الرهبانية واضحة فيها جدًّا فهي قريبة من تراث يملكونه، وإن كانوا قد تمردوا عليه!
وهم في ذلك يهتمون أكثر بالصوفية القائلين بوحدة الوجود؛ لأنها في النهاية فكرة إلحادية، ولا يوجد فيها تشريع، وهي فكرة يرى أصحابها أنها جوهر قابل لأن تلبسه قشرة أي دين في مرحلة المجاهدة التي يزعمون أن مَن يقوم بها سينكشف له أن الخلق والخالق شيء واحد؛ تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وبالتالي فوحدة الوجود هي أقصر الطرق لفكرة وحدة الأديان الشيطانية.
ثم جاءت موجة الاحتلال العسكري، وجاءنا الغرب بمطاعن المستشرقين الأولى جنبًا إلى جنب مع مطاعن العالمانية على دين الكنيسة، زاعمين أن هذه المطاعن تصدق على كل دين، وزاعمين في ذات الوقت أن الطريقة الوحيدة لتفادي هذه المطاعن هي ذات ما فعله الغرب في دينه، فاستغربوا عقولًا من عقول أبناء المسلمين، ووظَّفوهم في الترويج لباطلهم.
ومع بداية اكتشاف الأميركتين في القرن الخامس عشر الميلادي اشرأبت أعناق مفكري الغرب لتكوين غرب مهيمن مسيطر فكريًّا قبل أن يكون عسكريًّا، وبعد صعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية ثم بعد انتهاء الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفيتي علت جدًّا وتيرة الدعوة الى العولمة، وهي باختصار (الأمركة) سياسيًّا واقتصاديًّا ودينيًّا.
وستجد أن كل الأديان قابلة لأن يصنع بها ما صنعه الغرب في دينه "ما عدا الإسلام"؛ ولذلك ما زال الغرب يُنشئ ويدعم ويساند مؤسسات كثيرة لنشر صورة جديدة من الإسلام بعد إدخال كل أنواع العبث التي أدخلوها على دينهم.
ومن هذه المؤسسات: "مؤسسة راند" على المستوى الدولي، ومؤسسة "مؤمنون بلا حدود" في الوطن العربي، وأخيرًا: الطبعة المصرية منها: "مؤسسة تكوين الفكر العربي"، ولكن هيهات هيهات... فالله (غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).
الإسلام كما يعرضه الغرب:
كل ما تقدَّم من أباطيل يريد الغرب أن يصدر لنا وجودها في الإسلام لأسبابٍ، منها:
الأول: أن الغرب ما زال يشعر أنه تاريخيًّا أمة نصرانية، ولا يمكن التنصل من هذا، ومِن ثَمَّ لا يريد أن يعترف بأي تميز للإسلام على النصرانية.
الثاني: أن الغرب يريد منا أن نكون عالمانيين مثله؛ فلا بد من إثبات ذات الأسباب التي أدت لانتشار العالمانية عنده. والغرب يريد منا أن نكون عالمانيين من باب السيطرة الفكرية، ومن باب أنه يعرف ما لدين الإسلام من قوة؛ فإن كان هو قد اختار العالمانية فلا يمكن أن يتركك تنفرد بسبب قوة ومصدر وحدة؛ لا سيما إذا كان متى ترك المسلمون وشأنهم، وتعلُّم دينهم من مصادره؛ فسوف يزدادون تمسكًا به، ولن يجدوا فيه ما ينفِّرهم منه.
ويمكن أن يقال: إن في مرحلة ما قبل العلمانية كان الغرب يريد أن يمنع ويحصن أتباعه من الانبهار بالإسلام، فتركزت جهود المستشرقين على تثبيت أنواع من الكذب على الإسلام ليظهر أن فيه نفس عيوب النصرانية، بل أكثر! ثم في مرحلة العالمانية أبقوا هذه الشبهات وأضافوا إليها ليقرروا حاجتنا إلى العالمانية كما احتاجوا هم إليها.
أمثلة مِن فكر رموز مؤسسة تكوين:
1- بالنسبة لما تقدم طرحه من تنظير الغرب لقبول الإلحاد، فإن مركز تكوين يضم كتابًا يصرحون بإلحادهم (عامة ما يطرح في تكوين إلحاد بمعناه الشرعي من الميل والعدول عن الحق إلى الباطل، ولكن نعني هنا أنهم ينصرون الإلحاد بمعناه الاصطلاحي، وصورته الأكثر وضوحًا، وهي إنكار وجود خالق!).
2- أما وحدة الوجود فيدافع عن القائلين بها: يوسف زيدان، وفراس السواح!
3- وأما زمالة الأديان "بالذات اليهودية والنصرانية" مع الإسلام (وتجري محاولات للدمج بينهم -والعياذ بالله- تحت مسمَّى: الدين الإبراهيمي!)؛ فأمر يدندن حوله كثيرٌ منهم، بل بلغ السفه بإبراهيم عيسى أن يتغزل بالبقرة مطالبًا منا ألا نسخر من عبدة البقر!
4- وأما التشجيع على القول بأن القرآن كتاب رمزي، فيوسف زيدان، وفراس سواح شديدا الثناء على إخوان الصفا (وهي جماعة باطنية تعامل القرآن على أنه كتاب رمزي، وزيادة على هذا: أنها كتبت رسائلها بطريقة رمزية أيضًا؛ لتتلاشى أهمية استعمال اللغة تمامًا)، كما وصف يوسف زيدان صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- بأنه أسوأ شخصية في التاريخ لقضائه على الدولة الباطنية المسماة زورًا: بالفاطمية! وكتب بعضهم قدحًا في صلاح الدين؛ لأمره بقتل السهروردي أحد القائلين بوحدة الوجود.
5- وأما التشكيك في الوحي أيضًا فيتبناه بعضهم، ومن ذلك: دعوى أن القرآن المكتوب ليس هو بعينه الذي نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- (وهذا يردده محمد أركون، ويسميه أنسنة الوحي، ومؤسسة تكوين تنشر دراسات لتلاميذ محمد أركون!).
وجدير بالذكر: أن هذه الشبهة مجاب عنها بالتفصيل في كتب علوم القرآن.
وجدير بالذكر أيضًا: الإجماع على كفر من قال بهذا.
6- ومن ذلك: دعوى أن القرآن يحتوي على أساطير، كما يصرِّح بهذا فراس سواح "عضو مجلس أمناء مؤسسة تكوين"، وأيضًا لا يخفى الإجماع على كفر من قال بهذا.
هذا وقد ردَّده إسلام البحيري ضمنًا، حينما أعاد التمثيل بكتاب: "في الشعر الجاهلي" لطه حسين؛ رغم أن الأزهر كفَّره بسببه، ثم قام بسحبه -كما تقدم في مقالات سابقة-.
7- وكذلك دعوى أن القرآن تراث رمزي، وهذا يردده محمد أركون والجابري، وتلاميذهما من تكوين.
ويدندن حوله إسلام البحيري وإبراهيم عيسى.
7- دعوى تأخر تدوين السنة وتدخل الأهواء السياسية في هذا التدوين، وهو يكاد يكون من الأكاذيب التي يرددها كل مجلس أمناء تكوين.
8- التشكيك في ثبوت السيرة النبوية -وقد ناقشناه في مقالة سابقة-، وهو من الخطورة بمكان؛ لأن السيرة تمثِّل الرابطة التي تربط غير المشتغلين بالعلم الشرعي بنبيهم -صلى الله عليه وسلم-.
9- التشكيك في الصحابة وعدالتهم كما هو ديدن إبراهيم عيسى، وإسلام البحيري؛ فضلًا عن الشبهات المعتادة لإبراهيم عيسى وإسلام بحيري، ومنها:
- زعم تاريخية النص، وأن العمل به مؤقت بزمانه فقط.
- ادعاء أن العبرة بخصوص السبب.
- الطعن في أدوات التفسير.
- السنة.
- السيرة.
- الصحابة.
- علم الحديث.
- المحدثون.
- الفقهاء.
نسأل الله أن يرد شرورهم عن الأمة وتراثها وأبنائها.