كتبه/ محمد عبد الفتاح أبو إدريس
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي الوقت الذي تزداد فيه المؤامرة على الإسلام وأهله في بلاد المسلمين وخارجها بالصد عن سبيل الله، والبطش والتنكيل بالمستضعفين، والإبادة الجماعية والفردية لمن يحاول رفع رأسه لإبداء مقاومة، وأحيانًا بدون ذلك (كما في البوسنة والهرسك)، وسن القوانين المشبوهة لإرهاب الملتزمين بالإسلام وعقد المحاكمات الجائرة وإصدار أقصى العقوبات، وكل هذا مما لا يجدي شيئًا مع أصحاب العقيدة والإيمان.
وسط هذا كله يرينا الله -سبحانه وتعالى- من آيات قدرته على خلقه جميعًا، وعزته وغناه ما يقرر في نفوس المؤمنين: أنه -سبحانه- وحده مالك الملك، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء، يغني قومًا ويفقر آخرين، ويحيي أقومًا ويميت آخرين، يداول الأيام بين الناس بقدرته؛ فكم رأينا من رئيس وملك أصبح في عشية وضحاها مسجونًا ذليلًا، وكم رأينا مدنًا عامرة وقرى مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، فإذا بها قد أتاها من أمر الله من الأعاصير والزلازل، أو من فُرقة واختلاف أهلها وتقاتلهم، ما جعلها قاعًا صفصفًا!
كم سمعنا بملايين المشردين في بلاد الكفر والطغيان التي يسمونها: "القوة العظمى" التي لا تجد من يحاربها وهم في هذا كله لا يرونه آية ودلالة على عجز الانسان، وفقره وضعفه، ولا يتعظون ولا يعتبرون، كما قال الله -تعالى- عنهم وامثالهم: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 43-45).
والمتدبر لهذه الآيات الكريمة ولسيرة الظالمين مع المؤمنين، يلحظ أن ما ذكر به هؤلاء المجرمين لم يكن استئصالًا ولا إزالة لملكهم بالكلية، بل كان تذكرة بقدرة الله عليهم مع بقاء سلطانهم إلى الأبد المقدَّر كما في قصة فرعون وقومه مع موسى -عليه السلام-، فقد كانت آيات الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، لا تزيل فرعون وملئه عن ملكهم، ولكن ليتعظوا، فما اتعظوا إلى أن أتاهم أمر الله النافذ، فهذه الآيات لا يراها إلا المؤمنون، وهي في حقيقة أمرهم تحمل أمر الصبر للمؤمنين والبشارة لهم، وتبيِّن لهم حكمة الابتلاء: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (محمد: 4).
والذي يلزم أهل الإيمان في أيام الكيد البائر والباطل الزاهق، أن يكونوا على يقين بوعد الله ونصره للإسلام وأهله؛ قال -تعالى-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105)، وقال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ . لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال: 36، 37)، وقال: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51).
فليس النصر للرسل وحدهم، بل الذين آمنوا أيضًا، وليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا قبل ذلك، وهذا اليقين وهذا الاستبشار بقرب الفرج والنصر من أهم واجبات مرحلة الاستضعاف، كما أمر الله نبيه موسى وأخاه هارون: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 87)، فتحقيق التقارب بين المؤمنين على أحد الوجهين في تفسير قوله -تعالى-: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي: يقابل بعضها بعضًا، وذلك مما يقوي الرابطة الإيمانية والمحبة في الله، وزوال الشحناء والضغائن من القلوب، وهذا من أوجب الواجبات التي بها ينصر الله أهل الإسلام: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) (الأنفال: 62-63).
وكذلك الاجتهاد في العبادة (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) والدعاء والتضرع، ومع هذا التبشير بقرب الفرج (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)؛ كل هذا مما ييسر الله به تجاوز هذه المرحلة الصعبة التي تشبه "آلام الوضع" قبل نزول الوليد الجديد إلى الحياة، فعن قريب بإذن الله -ولو كره الكافرون- يظهر على سطح الأرض الكيان الإسلامي الغالب الظاهر على من خالفه.
إن تحقيق الاستعانة تكون بالله وحده والافتقار إلى فضله دون سواه، والصبر الذي يرفع الله به الدرجات كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) (متفق عليه)، وهذا فرعون قد أعاد سن قانونه الإرهابي القديم بقتل ذكور بني إسرائيل واستحياء نسائهم لما عرضه مَلَؤُه عليه، فقالوا كذبًا وزورًا: (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف: 127)، وهل كان الخبيث توقف عن ذلك منذ ما قبل ولادة موسى؟
وتأمل إلى جواب موسى لقومه -كما في قوله تعالى-: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف: 128، 129).
ولنعلم أن الاجتهاد في تحصيل التقوى؛ عملًا بشرع الله، وعملًا بطاعته وطاعة رسوله، واجتنابًا لنهيه ونهي رسوله، قال -تعالى-: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود: 49)؛ إن لم يتحقق قبل التمكين فما أبعد أن يتحصل شيء منها بعده؛ فأين الأمير أو الرئيس أو الملك الذي يطلب العلم عند أبواب العلماء، أو حتى يجد متسعًا من وقته -وهو تشغله الصراعات والمنافسات على الدنيا- لطلبه من الكتب وكلام اهل العلم؟!
وأين تجد كبيرًا او متصدرًا يزيده تصدره ورعًا وخوفًا من الله؟!
ولذا، فهذه المرحلة فرصة للتربية والإعداد العام الذي لا بد منه لنفوس الطائفة المؤمنة بالتواضع، والتنافس على الطاعة، والتحاب في الله، والاجتهاد في العبادة والطاعة دون النظر للنتيجة في هذه الحياة والآثار، وإنكار الذات، فيكون "الواحد منا مع الله بلا خلق ومع الخلق بلا نفس" -كما قال بعض السلف-، يعني: الإخلاص مع الله، والتواضع مع الخلق، حتى إذا حصل التمكين -بإذن الله- لم تتصارع هذه النفوس على الدنيا وطلب المُلك، وهذا آخر ما خافه الرسول على صحابته الكرام الذين رباهم بنفسه حيث قال: (مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ) (متفق عليه).
وليستيقن أهل الإيمان وأصحاب الدعوة: أن النصر ليس من صنعهم، وأن الدعوة إنما تنجح وتسير لا بفضلهم ولا عملهم، فكم بذلوا في مرحلة الضعف وما أنتج البذل شيئًا، وكم حاولوا وباءت محاولاتهم بالفشل وهم يرون ذنوبهم ويعلمون كم في نفوسهم من القبح والسوء، فإذا مَنَّ الله عليهم بفضله ومِنَّته -مع غناه عنهم- لم ينسوا هذه اللحظات، ولم تسعَ حظوظ النفوس لأن تقول: أنا الذي صنعت هذا، وانا صاحبة الفضل فيه؛ لا حالًا ولا مقالًا؛ قال -تعالى- مذكرًا أهل بدر بعد النصر العظيم في هذه الغزوة التي بها عُبد الله في الأرض ويعبد إلى يوم القيامة: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال: 26).
ألا فلتأخذ الطائفة المنصورة -أهل السنة والجماعة- بأسباب النصر والتمكين والسعي لإعلاء كلمة الله في الأرض، وهم يرون المِنَّة لله عليهم في أن جعلهم أهل طاعته في وقت الشدة، وأهل هدايته في وقت انتشار الضلالة، وأهل توفيقه وقت زيادة الخذلان؛ أي منة أعظم من ذلك؟! قال -تعالى- مذكرًا للمسلمين عقب هزيمة أحد: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران: 164).