كتبه/ أحمد مسعود الفقي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن من تمام عدل الله وحكمته أن فرَّق بين كل نقيضين كالكفر نقيض الإيمان، والطاعة نقيض العصيان، والخير نقيض الشر، والحق نقيض الباطل، وهذا من البديهيات المسلم بها والتي لا مجال فيها للشك، وبين الله ذلك في القرآن أحسن بيان، فقال -تعالى-: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (القلم: 35).
قال الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم -حفظه الله- في تفسيره: "يعني: في الكرامة والمثوبة الحسنة، والعاقبة الحميدة، ثم وبخهم الله فقال: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) يعني كيف تحكمون بما ينبو عنه العقل السليم؛ فإنهما لا يستويان في قضيته؟ العقل السليم يحكم بأن المسلمين ليسوا كالمجرمين ولا يمكن أن يستويا، فكيف تحكمون هذا الحكم الأعوج، وكأن أمر الجزاء مفوض إليكم، حتى تحكموا فيه أن لكم من الخير ما للمسلمين" (انتهى).
والهمزة في (أَفَنَجْعَلُ) للاستفهام الإِنكاري من الله -تعالى- على من سوى بينهما؛ لأن التسوية لا تليق بحكمته ولا بعدله سبحانه؛ فلا يجعل أولئك كهؤلاء ففرَّق بينهم في الدنيا، وفرق بينهم في الآخرة.
فالمسلمون هم من أسلموا لله -عز وجل- وانقادوا لشرعه، وامتثلوا أمره، وانتهوا عما نهى عنه؛ آمنوا به ربًّا خالقًا رازقًا محييًا مميتًا، واحدًا معبودًا بحق لا إله غيره، ولا رب سواه، تنزه عن الشريك والصاحبة والولد؛ فهل يستوون مع مَن قالوا: عزير ابن الله؟! ومع من قالوا: المسيح ابن الله، ومع من قالوا: الملائكة بنات الله، ومع من عبدوا الأصنام والأحجار؟!
هل يستوون مع مَن تمثلوا الله في كل موجود، ونادوا بالحلول والاتحادية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كل وصف ممدوح ومذموم نعتًا للخالق والمخلوق، وهذا من أقبح وأشد صور الإلحاد؛ لأنه مخالف للحس والعقل والشرع، حتى قال قائلهم:
الـعــبـد رب والــرب عـبـد يا ليت شعري من المكلف
إن قـلـت: عـبـد فـذاك رب أو قـلـت: رب أنى يكـلـف
تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا؛ فلا يستوي مَن عمل صالحًا ومن أساء، فمطلق عدل الله -عز وجل- يقتضي التمييز بينهما في الحياة الدنيا وفي الآخرة، بل والعقل السليم يوقن أنه لا بد من معاد وجزاء يثيب الله فيه المؤمنين الأتقياء، ويعاقب المفسدين الأشقياء.
وقد نفى الله المساواة بين حال الذين آمنوا به وبرسوله -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء في كتابه، وعملوا صالحًا في الحياة الدنيا، وحال الذين أفسدوا في الأرض بمعتقداتهم وأفعالهم، كما نفى المساواة بين حال من كان شعارهم التقوى في طاعته والإيمان به، وحال من كان شعارهم الفجور في معصيته والكفر به، فقال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص: 28)، وقال -تعالى-: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (الجاثية: 21).
ويرى الطاهر ابن عاشور أن ظاهر تركيب الآية في قوله: (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) داخل في الحسبان المنكور، فيكون المعنى: إنكار أن يستوي المشركون مع المؤمنين لا في الحياة ولا بعد الممات، فكما خالف الله بين حالَيْهم في الحياة الدنيا فجعل فريقًا كفرة مسيئين وفريقًا مؤمنين محسنين؛ فكذلك سيخالف بين حاليهم في الممات فيموت المشركون على اليأس من رحمة الله إذ لا يوقنون بالبعث، ويلاقون بعد الممات هول ما توعدهم الله به، ويموت المؤمنون رجاء رحمة الله والبشرى بما وُعدوا به ويلاقون بعد الممات ثواب الله ورضوانه، وقد طابق في الآية بين محياهم ومماتهم، والسيئات والصالحات؛ ولذلك لا تجد شيئا جعل فارقًا بين شيئين أوضح وأظهر بيانًا من التفرقة بين الإيمان والكفر، وبين المؤمنين والكافرين، فتبًّا لمن أراد التسوية بين ما فرق الله بينه!
وللحديث بقية -إن شاء الله-.