كتبه/ محمد خلف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيأتي رمضان بالصوم الذي يذكرنا بعظيم نعم الله علينا من المأكل والمشرب، وبالحواس التي مَنَّ الله بها علينا للتمتع بها، وتيسير هضمها، وكثيرة هي النعم التي نغفل عنها مع عظمها، ولكن الواحد منا يألف النعمة ولا يشعر بها إلا بعد فقدها ولو مؤقتًا، فينبغي أن نكثر من الحمد لله التي تملأ الميزان، وكذا الاستغفار الحاصل من التفريط والتقصير في شكر نعم ربنا الغفور الرحيم -سبحانه وبحمده-.
وتظل دائمًا أجل النعم في كل حين، ولا سيما في شهر القرآن والتراويح، والذكر والدعاء، والعتق والغفران، هي معرفة الله وتوحيده، والشوق إليه والعيش بدينه ولدينه، ودوام ذكره ودعائه، والافتقار والخضوع، والإنابة إليه، والفرار منه إليه؛ لذلك في سورة النعم (سورة النحل) صَدَّر -سبحانه- فاتحة هذه السورة المباركة بالتذكير بهذه النعمة الجليلة، وهي إرسال الرسل بالنور ودعوة الناس إلى توحيده وإفراده بالعبودية وإلى تقواه، فقال -تعالى-: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) (النحل: ?).
قال ابن عيينة -رحمه الله-: "مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ نِعْمَةً مِنْ أَنْ عَرَّفَهُمْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: وَإِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَالْمَاءِ فِي الدُّنْيَا" (كتاب الشكر لابن أبي الدنيا)، وكذا في سورة الرحمن المشتملة على العديد والعديد من نعم وآلاء الله -تعالى-؛ افتتحها بنعمة تعليم القرآن، فقال: (الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ) (الرحمن: 1-3).
أغْراضُ هَذِهِ السُّورَةُ ابتدأت بِالتَّنْوِيهِ بِالقُرْآنِ؛ قالَ في الكَشّافِ: "أرادَ اللَّهُ أنْ يُقَدِّمَ في عَدَدِ آلائِهِ أوَّلَ شَيْءٍ ما هو أسْبَقُ قِدَمًا مِن ضُرُوبِ آلائِهِ وأصْنافِ نَعْمائِهِ وهي نِعْمَةُ الدِّينِ، فَقَدَّمَ مِن نِعْمَةِ الدِّينِ ما هو أعْلى مَراتِبِها وأقْصى مَراقِبِها وهو إنْعامُهُ بِالقُرْآنِ وتَنْزِيلِهِ وتَعْلِيمِهِ، وأخَّرَ ذِكْرَ خَلْقِ الإنْسانِ عَنْ ذِكْرِهِ ثُمَّ أتْبَعُهُ إيّاهُ ثُمَّ ذَكَرَ ما تَمَيَّزَ بِهِ مِن سائِرِ الحَيَوانِ مِنَ البَيانِ" (التحرير والتنوير لابن عاشور).
وفي الإتيان بنعمة تعليم القرآن قبل الإشارة إلى خلق الإنسان، قال الرازي في تفسيره: "لَمَّا ثَبَت كَونُه الرَّحمنَ، وأشار إلى ما هو شِفاءٌ ورَحمةٌ -وهو القُرآنُ-؛ ذكَرَ نِعَمَه، وبدأ بخَلْقِ الإنسانِ؛ فإنَّه نِعمةٌ تَتِمُّ جميعُ النِّعَمِ به، ولولا وُجودُه لَما انتَفَع بشَيءٍ، فيستشعر المؤمن في شهر القرآن الاصطفاء والتفضيل من الله العليم الحكيم له الذي أنعم عليه وأعطاه الكتاب المبين المصدق لما بين يديه من الكتب والشاهد والحاكم عليها، فقال: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر: 32).
فينطق القلب قبل الجوارح شكرًا وثناءً على ربنا الرحيم، وكذا خوفًا من أن يفقد هذه النعم التي هي أجل النعم فينطق وجلًا منكسرًا مفتقرًا، قائلًا كما قاله من قبله الراسخون في العلم: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران: 8).
وكذا متأسيًا بنبينا -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يكثر من دعائه: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
فاللهم لك الحمد لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.