كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
- بعد وقعة بني قينقاع وطردهم خارج المدينة، خافت قبائل يهود الأخرى على أنفسهم، فاستكانوا والتزموا الهدوء والسكون، ولكنهم بعد وقعة أُحُد تجرأوا، وازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعة الرَّجِيع وبئر مَعُونة، حتى قاموا بمؤامرة تهدف إلى القضاء على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنقضوا العهد.
كيف نقضوا العهد؟
- محاولتهم اغتيال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ذكر أهل السِّيَر: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج إليهم في نفرٍ من أصحابه، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْرِي -وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة-، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك. فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه أبو بكر وعمر وعليٌّ، وطائفة من أصحابه. وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا بقتله -صلى الله عليه وسلم-، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحي، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا. فقال لهم سَلاَّم بن مِشْكَم: لا تفعلوا، فوالله ليُخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه، ولكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم. ونزل جبريل يعلمه بما هموا به، فنهض مسرعًا وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا: نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما هَمَّتْ به يهود" (زاد المعاد).
- هكذا اليهود... لا يحفظون عهدًا ولا عقدًا: قال -تعالى-: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة: 100). وقال: (وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (البقرة: 120)(1).
كيف عاملهم النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
- النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- يرسل إليهم بخيانتهم، ونقضهم للعهد وما ترتب على ذلك، وأنهم يستحقون الحرب والقتل والطرد: ذكر أهل السير: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث محمد بن مسلمة إلى يهود بني النضير يقول لهم: أخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشرًا، فمن وجدته بعد ذلك منكم ضربت عنقه".
- لم يجد اليهود مناصًا من الخروج، فأقاموا أيامًا يتجهزون للرحيل والخروج من المدينة: (لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ) (الحشر: 13).
- المنافقون في المشهد مرة أخرى!: رئيس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول يبعث إليهم: "أن اثبتوا وتمنعوا ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصونكم يدافعون عنكم ويموتون دونكم".
- هناك عادت لليهود ثقتهم وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رئيس المنافقين، فبعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون له "إنّا لن نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك!".
- كان الموقف حرجًا بالنسبة للمسلمين؛ لأنهم لا يريدون أن يشتبكوا مع خصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم؛ لأنَّ جبهة القتال مشتعلة مع المشركين، فلا يريدون أن يفتحوا جبهة أخرى مع اليهود؛ لا سيما وأنَّ يهود النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، والقتال معهم غير مأمون العواقب والنتائج، ولكنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بلغه جوابهم كبَّر وكبَّر المسلمون معه، ثم نهض -صلى الله عليه وسلم- لقتالهم ومناجزتهم.
- سار إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل لواءه علي بن أبي طالب، فلما وصل إليهم التجأوا إلى حصونهم، وكانت نخيلهم وبساتينهم عونًا لهم في ذلك، ففرض -صلى الله عليه وسلم- عليهم الحصار، وأمر بقطع النخيل وتحريقها، وفي ذلك أنزل الله: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) (الحشر: 5).
- لما رأى المنافقون جدية الأمر، خانوا حلفاءهم اليهود، فلم يسوقوا لهم خيرًا ولم يدفعوا عنهم شرًّا: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (الحشر: 16).
- لم يطل الحصار طويلًا، وإنما دام ست ليال فقط، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فانهزموا وتهيأوا للاستسلام وإلقاء السلاح، فأرسلوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نحن نخرج عن المدينة"، فوافق -صلى الله عليه وسلم- على أن يخرجوا منها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، فوافقوا على ذلك. ولحقدهم وحسدهم قاموا بتخريب بيوتهم بأيديهم، ليحملوا معهم الأبواب والشبابيك والجذوع؛ حتى لا يأخذها المسلمون.
دروس وعبر من الحدث:
- القرآن بعد الوقعة ينزل بالأمر بأخذ العبر والدروس من الحال إلى المآل (سورة الحشر كاملة التي جاء في مطلعها): (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر: 2).
1- إثبات قدرة الله -سبحانه وتعالى- على تغيير الأحوال، وتصريف الأمور؛ فهؤلاء اليهود كان المسلمون يظنون أن قوتهم وحصونهم التي يتحصنون بداخلها لن يستطيع أحدٌ أن يخترقها أو يخرجهم منها، وظن اليهود أن حصونهم مانعتهم من الغلبة، ولكن الله -جل جلاله- أتاهم من حيث لم يحسبوا، فسلَّط عليهم جنديًّا من جنوده، وهو: "الرعب"؛ فانهارت معنوياتهم، وضعفت نفسياتهم، فاستسلموا وخرجوا وجعلوا يخربون بيوتهم بأيديهم: قال -تعالى-: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر: 2). (والذي أخرج هؤلاء قادر على إخراج غيرهم).
2- بيان حال المنافقين وكشف العلاقة الوطيدة بينهم وبين اليهود والنصارى (إخوانهم): قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (الحشر: 11).
3- كشف زيف تدين اليهود (قتلة الأنبياء - سبوا الله بالفقر والبخل... - أكلة السحت - إلخ)، فلقد جعلوا يشيعون أن محمدًا يفسد في الأرض، لما قطع المسلمون النخيل والأشجار التي تحصنوا بها!: فقال الله -تعالى- للمسلمين: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) (الحشر: 5).
خاتمة:
- هكذا عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود بنى النضير لما غدروا ونقضوا العهد، ومع ذلك لم يتوقف من بقي منهم في المدينة عن الدس والتآمر ضد المسلمين، حتى جعلوا يتصلون بأعداء المسلمين على اختلافهم ليجيشوا الجيوش والأحلاف للقضاء على دولة الإسلام الناشئة في المدينة.
وهذه صفحة أخرى سوداء من صفحات تاريخهم المظلم مع النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، يأتي الحديث عنها في المرة القادمة -إن شاء الله-.
فاللهم عليك بهم، وطهر الأرض من دنسهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يحسن الإشارة إلى أن رئيس هذه القبيلة على التحديد، هو: "حيي بن أخطب" الذي قال بعد ما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم دخل المدينة: "أعرفه وأثبته، ولكن عداوته في قلبي ما بقيت!".