كتبه/ نصر رمضان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فليس على دين الرسل أضر من الجهال، بل هم أعداؤه على الحقيقة؛ ولذا قال -تعالى- لنبيه -عليه السلام-: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (الأنعام: 35)، وقال كليمه موسى -عليه السلام-: (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (البقرة: 67)، وقال لأول رسله نوح -عليه السلام-: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود: 46).
وأمر نبيه بالإعراض عنهم، فقال: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199)، وأثنى على عباده بالإعراض عنهم ومتاركتهم؛ كما في قوله: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص: 55)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ) (الفرقان: 63)، وكل هذا يدل على قبح الجهل عنـده، وبغضه للجهل وأهله، وهو كذلك عند الناس.
وإن من الأدواء التي يُبتلى بها الفضلاء: ابتلاؤهم بمن لا خلاق لهم من الجهلاء والسفهاء الذين يسيئون إليهم بمرذول الكلام، ويوجهون لهم -على جهل- سهام الطعن والملام، فالسفيه إنسان ناقص العقل، يتجرأ بالسب والطعن في أهل الفضل؛ قال أبو حاتم بن حبان: "من علامات الحمق التي يجب على العاقل تفقدُها ممن خفي عليه أمره: الوقيعة في الأخيار، والاختلاط بالأشرار".
وهذا الصنف من الناس: لا يسعى إلى معرفة الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، والخير من الشر، بل تجد في طبعهم نزقًا، وفي ألسنتهم رهقًا، يغمزون فيه ويلمزون دون جريرة في الملموز، وإنما هو طيش الحلم، وسفه العقل؛ همهم: جمع المثالب، وحشد المعايب، وشغلهم: الثلب والثلم، والعيب والتجريح، فكلما ذكر عندهم أحدٌ عابوه، فإن ذكر أحدٌ بعبادة، قالوا: عابد، ولكنه ليس بعالم، والعبادة بلا علم تضر أكثر مما تنفع، وإن ذكر عندهم أحدٌ بعلم، قالوا: هو عالم، ولكن نيته لم تكن خالصة، وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، وإن ذكر عندهم أحد بجهاد قالوا: رُب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته، وإن ذكر عندهم أحدٌ ينفق في سبيل الله، قالوا: (فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) (الأنفال: 36)!
وكلما ذكر عندهم أحدٌ بمحمدة أو ثناء؛ بحثوا عن عيب يلصقونه به، وكأن أحدهم لا يسره إلا ذكر الناس بالشر والسوء.
وليس دافع هؤلاء بكل حال الإصلاح، ولا تصحيح الأخطاء، وإنما دافعهم الحسد والبغي، والحقد والظلم، فالتشهير طريقتهم، ويرفعون في كل نادٍ بالبهتان أصواتهم: "هذا فلان فاحذروه"، يتصيدون العثرات إن وجدوها، فإن أعياهم البحث؛ طفقوا يفترون الكذب، ويُلفقون التهم، لا يقيمون لذوي هيئة عثرة، ولا يحفظون لمسلم عورة، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا يخافون من الله أحدًا، ولا مذمة! (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (التوبة: 10).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (فإن الجاهل بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير -يعني: الجريح-، ولا يقع على الصحيح، والعاقل يزن الأمور جميعًا، هذا، وهذا" (منهاج السنة).
ولا شك أن هذا ظلمٌ وجورٌ، (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 57)، وما من ذنب أجدر أن يعجل الله -تعالى- له العقوبة في الدنيا من الظلم والبغي، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فإذا ابتلي فاضلٌ بسفيه فلا يجاره؛ لأن مجاراة السفيه تقود العاقل إلى مشابهته، والسفيه لا يريد من العاقل إلا ذلك؛ لأن السفيه لا يملك إلا هذه الوسيلة للانتصار لنفسه، ولو كان يعرف مسلكًا غيره لينتصر لسلكه كما يفعل العقلاء، فما أحسن الإعراض عن السفيه وسفاهته، قال الذهبي -رحمه الله-: "الجاهل لا يعلم رتبة نفسه؛ فكيف يعرف رتبة غيره؟!".
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال بعض العلماء: الناس رجلان: فرجل محسن، فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه، وإما مسيء، فمره بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك، واستمر في جهله، فأعرض عنه، فلعل ذلك أن يرد كيده" (تفسير ابن كثير).
فمن أعرض عن السفهاء؛ حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه، فبالإعراض عن الجاهلين يحفظ الرجل على نفسه عزتها، والعرب تقول: "إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر"، وقال بعض الحكماء: "إذا سكتَّ عن الجاهل؛ فقد أوسعتـه جوابًا، وأوجعتـه عقـابًا".
قال أبو الدرداء رضي الله عنه لرجل أسمعه كلامًا: "يا هذا، لا تغرقن في سبنا، ودع للصلح موضعًا، فإنا لا نكافئ مَن عصى الله فينا؛ بأكثر من أن نطيع الله -عز وجل- فيه".
ونال رجلٌ من عمر بن عبد العزيز فلم يجبه، فقيل له: "ما يمنعك منه؟ قال: التقي ملجم لا يفعل كل ما يريد"، وقال الأصمعي: "بلغني أن رجلًا قال لآخر: والله لئن قلتَ واحدة لتسمعن عشرًا، فقال الآخر: لكنك إن قلت عشرًا لم تسمع واحدةً!".
وأكثر رجلٌ مَن سبِّ الأحنف وهو لا يجيبه، فقال الساب: "والله ما منعه من جوابي إلا هواني عليه"، وأسمع رجلٌ ابنَ هبيرة؛ فأعرض عنه، فقال: "إياك أعني، فقال له: وعنك أعرض"، وقال الأعمش: "السكـوت جواب".
وعن عثمان بن زائدة، قال: قلتُ للإمام أحمد: "العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في التغافل. فقال: العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل".