كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الغرض مِن الموضوع:
إحياء قضية المسجد الأقصى في نفوس المسلمين، وبيان معالِم طريق تحريره مِن الأيدي الغاصبة، مِن خلال التعرض لصفحاتٍ مِن تاريخ الاعتداءات على بيت المقدس على مرِّ التاريخ، وكيف كان الطريق لتحريره في كل مرة.
المقدمة:
- الإشارة إلى أن أرض فلسطين "وعلى الخصوص المسجد الأقصى"، قد تعرضتْ للاعتداءات الكثيرة على مرِّ التاريخ، وفى كل مرة يقيض الله -عز وجل- لذلك مَن يقوم على تحريرها مِن الأيدي الكافرة الغاصبة.
- التذكير بما جاء في المرة السابقة في عبارةٍ وجيزة، وأن المسجد الأقصى ظل في أيدي المؤمنين - الدولة الأموية ثم الدولة العباسية-، إلى أن بدأت تظهر فيهم الانحرافات عن دين الله، فكانت سنة الله الماضية، قال تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال:53).
- تنبيه على أن الاعتداء في هذه المرة مِن الكفار على المسجد الأقصى وبيت المقدس كان من أوروبا الصليبية (سنة 492ه- - 1099م)، حتى جاء صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- بعد (88 عامًا)، وحرره بعد معارك ضارية في بلاد فلسطين (سنة 583ه- - 1187م).
(1) مجمل الأحداث في نقاطٍ:
- ضعف الخلافة العباسية بسب الانحراف عن تعاليم الاسلام، وموالاة الكافرين.
- ظهور الدولة الباطنية الشيعية في مصر؛ مما ساعد في إضعاف الخلافة العباسية.
- جيوش أوروبا الصليبية بتماهي الشيعة الفاطميين تهاجم أرض فلسطين، وتغتصب المسجد الأقصى؛ بزعم أن المسجد بُني على كنيسة لهم تسمى: "العذراء"، وتبع ذلك مذبحة مروعة قتلوا فيها سبعين ألفًا من أهل فلسطين حينما دخلوا القدس، حتى غاصت الركب في دماء المسلمين، وحولوا المسجد إلى كنيسة، وجعلوا من قبة الصخرة مكانًا لخيولهم وخنازيرهم.
- محاولات ضعيفة من بعض المسلمين من حول القدس حتى ظهر عماد الدين زنكي -والي حلب-، فأحيا الجهاد في نفوس المسلمين بعد أكثر من أربعين سنة، وجرأهم على قتال الصليبيين بعد أن ظن الناس أن الصليبيين قوة لا تقهر، فخاض عدة معارك ضارية معهم، وقام بفتح حصن الرها سنة (539 هـ)، ثم قتل غدرًا بخيانة بعض خدمه -رحمه الله- (نلاحظ تاريخ البداية مع تاريخ الفتح على يد صلاح الدين -أكثر من أربعين سنة- إشارة إلى لزوم الصبر وعدم اليأس).
- يأتي من بعده ولده "نور الدين محمود زنكي"، وواصل طريق الجهاد ضد الصليبين، وواجههم في أماكن متفرقة حتى انتزع من أيديهم نيفًا وخمسين مدينة، كما قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله-.
- "نور الدين محمود زنكي" يواصل الجهاد ضد الصليبيين، ويستنقذ مصر من أيدي الفاطميين -الباطنية العبيدية-، وولَّى عليها "أسد الدين شيركوه".
- وفاة "أسد الدين شيركوه" وتولية الوزارة في مصر لـ"صلاح الدين الأيوبي" ابن أخي "أسد الدين".
- "نور الدين محمود زنكي" يمهد لفتح بيت المقدس حتى إنه أعد منبرًا يدخل به إلى بيت المقدس ليخطب عليه عند الفتح! ولكن وافته منيته -رحمه الله- بعد سلسلة من الانتصارات على الصليبين في مواطن مختلفة.
نبذة من سيرته -رحمه الله- (إشارة إلى نوعية أحد قادة جيل الفتح):
- كان -رحمه الله- دائمًا يتعرض للشهادة، ويتمنى أن يقتل في سبيل الله -عز وجل-، وكان دائمًا يقول: "اللهم احشرني إليك من حواصل الطيور وبطون السباع"، وكان الفقيه في عصره "قطب الدين النيسابوري" قاضي المملكة يقول له: "بالله عليك يا مولانا السلطان، لا تخاطر بنفسك فتقتل فتعرض البلاد للخطر، إنما أنت سور البلاد وحاميها! فيقول له: اسكت يا قطب الدين! إن هذه إساءة أدب مع الله -عز وجل-، فمن كان يحفظ البلاد والعباد -غير الذي لا إله إلا هو- قبلي وقبل من قبلي؟!". قال أبو شامة المقدسي: "وبلَغني من شدة اهتمام نور الدين -رحمه الله- بأمر المسلمين، حين نزل الفرنج على دمياط، أنه قُرئ عليه جزءٌ من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديثٌ مسلسَل بالتبسُّم، فطلب منه بعضُ طلبة الحديث أن يتبسم لتتم السلسلة، على ما عُرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك، وقال: إني لأستحيي من الله -تعالى- أن يراني مبتسمًا والمسلمون محاصَرون بالفرنج! (الروضتين في أخبار الدولتين: النورية والصلاحية).
(2) استكمال الطريق بقيادة "صلاح الدين الأيوبي":
- بعد موت "نور الدين محمود زنكي"، صلاح الدين الأيوبي يسقط حكم الفاطميين الذين ضاعت في عصرهم القدس، وينهي خلافة "العاضد الفاطمي"، ويدعو للخليفة العباسي على منابر المسلمين؛ جمعًا لصفِّ المسلمين.
- إعلان "صلاح الدين الأيوبي" سلطانًا على مصر، ثم بعد ذلك ضم ولايات الشام إليه، وأصبح سلطانًا على مصر والشام.
- "صلاح الدين" يعد الجيوش لفتح القدس، ويسخر كل الجهود والأموال والأحوال لقتال الصليبيين، حتى صار ذلك شغله الشاغل، وكان -رحمه الله- يقول: "كيف أبتسم والأقصى أسير؟! والله إني لأستحيي من الله أن أبتسم وإخواني هناك يعذَّبون ويُقتلون!"، وكان من كلامه: "كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام، وبيتُ المقدس بأيدي الصليبيين". وقيل: إن من أسباب ذلك، أنه وصلته رسالة من بعض أهل بيت المقدس في صورة ظلامة للمسجد الأقصى تقول:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكَّس
جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدَّس
كل المساجد طهِّرت وأنا على شرف منجس
- وكانت البداية بمعركة حطين والكرك (583 هـ)، وكان الصليبيون فيها ثلاثة وستين ألف فارس، وانتهت المعركة بنصر مؤزر للمسلمين وثلاثين ألف قتيل صليبي، وثلاثين ألف أسير، منهم كل الملوك الذين حاربوه، ومنهم: البرنس أرناط، صاحب الكرك الذي كان يقول للمسلمين وهو يقتلهم: "فليجركم محمد"، وكان صلاح الدين قد نذر إن مكَّنه الله منه أن يقتله، فقال له صلاح الدين: "استهزأتَ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا نائب عنه"، ثم قام إلى سيفه فضربه على كتفه فأسقطه، ثم حز رأسه وألقاه خارج الخيمة.
- وبعد حطين توجَّه "صلاح الدين" ففتح عكا ودخلها، وأُذن فيها لصلاة الجمعة بعد غياب ثلاث وسبعين سنة.
- ثم بعد ذلك بدأت جيوش صلاح الدين الأيوبي تتوجه إلى القدس، فجاء بستين ألف مقاتل وقفوا حول أسوار القدس وحاصروها.
- الرعب والذل والخور يتملك قلوب الصليبيين، وبعد حصار ومناوشات قرروا الاستسلام وتسليم المدينة ومفارقتها في خلال أيام بشروط جعلها عليهم "صلاح الدين"، وقد حصل للمسلمين منهم الأسرى الكثيرين، كما قال علماء السير: "كان الفلاح من المسلمين يأتي بطنب خيمة ويربط فيه نيفًا وثلاثين أسيرًا، والحارس من المسلمين يحرس المائتين لا يهربون خوفًا من بطشه!".
- وفي السابع والعشرين من رجب (سنة 583هـ) فتح الله للمسلمين القدس، فعمدوا إلى المسجد الأقصى وإلى قبة الصخرة يطهرونهما من القذر والأوساخ التي تراكمت فيهما وعليهما في سنوات الاحتلال الصليبي، ويسقطون الصلبان التي نُصبت فوقهما في مشهد يذكرنا بتحطيم الأصنام التي أحاطت بالكعبة المشرفة في يوم فتح مكة، وبعث صلاح الدين الأيوبي إلى حلب، فجاء بالمنبر الذي صنعه الملك نور الدين محمود بن زنكي قبل سنوات طوال؛ ليوضع في محله بالمسجد الأقصى.
- وبعد واحد وتسعين سنة غابت فيها صلاة الجمعة من المسجد الأقصى، علا صوت المؤذن بالأذان، وزال صوت القسيسين والرهبان، وخطب قاضي صلاح الدين في الجمعة التالية، وقد بدأ الخطبة بقول الله -تعالى-: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:45)، فيا لعزة الإسلام، ويا لمجد المسلمين!
خاتمة:
- هكذا عاد المسجد الأقصى بعد نحو قرن من الزمان على أيدي الجيل والقادة الذين جعلوا قضية الدين هي أساس حياتهم ووجودهم.
- هذا هو الجيل الذي يعرف الطريق إلى المسجد الأقصى؛ هذا هو الجيل الذي يعود على يديه بيت المقدس للمسلمين؛ جيل يعرف قيمة المقدسات، جيل يعتز بإسلامه، جيل يعظِّم أمر الله، جيل الصيام والقيام والقرآن، جيل قدوته رسول الله والصحابة، جيل يرجو الجنة ويخاف النار، جيل يحمل العقيدة الصحيحة في كل جوانبها.
فاللهم مكِّن لدينك في الأرض، وطهِّر المسجد الأقصى مِن دنس اليهود.