إستراتيجية الحفظ والتلقين
كتبه/ كريم صديق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فثنائية الحفظ والفهم قد حَظَت بعناية كبرى لدى خبراء التعليم باعتبارهما من مؤشرات نواتج التعلم، وقد انحاز كثيرٌ من التربويين إلى العناية بالفهم وإعمال العقل، وأخذوا يغضون الطرف عن الحفظ، أو النظر إلى الحفظ على أنه أداة بائدة من أدوات التعليم لا ينبغي أن نعول عليها في سيرنا نحو تطوير التعليم.
والحق أن كلامهم يمكن أن يكون له وجهة من الصحة، ولكن إغفال الحفظ بصورة كلية من مناهج التعليم لا شك أنه ليس مفيدًا هو الآخر للطالب، فكثير من الخبرات الحياتية والقِيَم التربوية ينبغي أن تلقن للطالب ويحفظها حفظًا جيدًا لتكون بالنسبة للنشء الأساس الأولي واللبنات الرئيسة التي يبني الطالب عليها معارفه التي يكتسبها مع الوقت، فلا بد لكل طالب من أسس يحفظها تشكل وجدانه وقيمه، ولغته السليمة الخالية من اللحن، ونغرس من خلال هذا المحفوظ كل العادات والقيم التي ننشدها في أبنائنا.
وقد أولى القدماء عناية كبرى بالحفظ؛ فقد كان لقب الحافظ هو لقب كثير من علماء الإسلام الذين عُرِفوا بين الناس بالإتقان: كالحافظ ابن كثير، والحافظ السيوطي، وابن حجر، وغيرهم كثير ممَّن حذق وبرع في فنون من العلم، الحفظ يحدوك إلى الدربة، والدربة إحدى صور إتقان أي مهارة، لولا الحفظ لما وقف العالم في معمله أو مختبره يباشر سير التجربة بنظره دون أن يستعين بمرجع يأخذه أين ذهب! الحفظ وسيلة المربي لغرس القيم ومبادئ كل العلوم للناشئة والمبتدئين، كان امتحان اللغة العربية قديمًا يقيس الفهم والحفظ كليهما لدى الطالب فكان سؤال النحو وسؤال البلاغة وسؤال الإملاء وسؤال التعبير، كلها تركز على جانب الفهم ثم تأتي النصوص بما تحمله من قيم لتشكل وجدان الطالب.
ووالله لقد رأيتُ مَن جاوز الخمسين والستين يردد نصوصًا جميلة بما حوته من أدب كانت مقررة عليه وهو طفل في المرحلة الابتدائية؛ وعليه فإني أهيب بلجنة تطوير المناهج أن تبقي على حفظ النصوص في مناهج اللغة العربية لما تحمله هذه النصوص من قِيَم ينبغي أن يتشربها عقل ووجدان كل طالب، وأن يولوا عناية خاصة بأسئلة التذكر التي تدفع الطالب دفعًا لقراءة المنهج أكثر من مرة، بعد عزوف الطالب بالكلية عن قراءة القصة المقررة، ودروس القراءة والنصوص معللًا ذلك بأنها لا ترد في الامتحانات، مكتفين بقواعد النحو!
ويا لها من طامة كبرى حين يعزف الطلاب عن قراءة مناهجهم بهذه الصورة التي أفرزت لنا طلابًا في الصف الثالث الثانوي لا يحسن القراءة البتة!
إن التطوير لا يعني هدم القديم، وإنما يعني معالجة مواطن الضعف ومواضع الخلل، والرجوع للحق خير من التمادي في الخطأ.
والله أسأل أن يلهمنا الصواب في كلِّ أمورنا.