كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد نزح بعض اليهود قديمًا إلى بلاد العرب، واستقروا في يثرب التي عُرِفت باسم: "المدينة" بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها.
وقد استوطنت ثلاث قبائل يهودية يثرب قبل دخول الإسلام فيها، هم: بنو النضير، وبنو قريظة، وكانت ديارهم في جنوب شرق يثرب، وهؤلاء تحالفوا مع قبيلة الأوس العربية، بينما سكنت قبيلة بنو قينقاع داخل يثرب، وقد تحالفوا مع قبيلة الخزرج العربية.
ورغم أن هؤلاء اليهود قد صبغوا أنفسهم مع الوقت بالصبغة العربية في الزي واللغة والحياة القبلية؛ إلا أنهم لم يندمجوا في العرب تعصبًا لبني جنسهم؛ بل كانوا يتعالون على قبيلتي: الأوس والخزرج؛ لأنهم كانوا قبل الإسلام وثنيين يعبدون الأصنام، وكانوا يطلقون عليهم كما يطلقون على كلِّ مَن ليس على ملتهم: "الأميين"، كما قال -تعالى- فيهم: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) (آل عمران: 75)، أي: ليس علينا فيمن ليسوا على ملتنا عتاب أو عقاب إذا ظلمناهم (التفسير الوسيط).
وكانت الديانة اليهودية قد حُرِّفت، ووقع في التوراة التغيير والتبديل، كما اشتهر عن اليهود تعاملهم بالربا، كما عمدوا إلى الدس والوقيعة بين قبيلتي: الأوس والخزرج، وإشعال الحروب الداخلية بينهما من آنٍ لآخر، مع مشاركتهم في حروبهم تلك نصرة لهم؛ لكونهم حلفاء معهم؛ لذا لم ينتفع العرب دينيًّا من هؤلاء اليهود في شيء.
اليهود في القرآن المكي:
أطلع القرآن الكريم المسلمين وهم ما زالوا في مكة، ومن خلال السور المكية العديدة على خصال كثيرة سيئة لهؤلاء اليهود؛ تنديدًا بهم، وذلك قبل هجرة المسلمين إلى يثرب، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن الأمة ستحتاج إلى معرفة خبايا هؤلاء اليهود وانحرافاتهم على حقيقتها، وكان اليهود قد أشاعوا بين العرب وقتها أنهم أهل دين وأنهم أتباع الأنبياء، وأنهم في انتظار نبي يبعث فيهم يقاتلون معه مَن خالفهم ويكون لهم معه الغلبة والملك.
ومن تلك الآيات المكية في اليهود:
- ما جاء في سورة النمل المكية في قوله -تعالى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ . وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (النمل: 76- 77)، وقوله -تعالى- في سورة الأنعام المكية: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) (الأنعام: 146)، وقوله -تعالى- في سورة النحل المكية: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل: 118).
وقال -تعالى- في سورة الإسراء المكية: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا . فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا . ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا . إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا . عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) (الإسراء: 4 – 8). وهذه الآيات تكشف بوضوح مساوئ اليهود التاريخية، وإفسادهم في الأرض.
وقال -تعالى- في سورة الأعراف المكية: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) (الأعراف: 148)، وقال -تعالى- في بيان عنادهم: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأعراف: 171)، ومع هذا الموقف الرهيب عادوا إلى العصيان كما أخبر الله عنهم في سورة البقرة المدنية: (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) (البقرة: 93)، وقال -تعالى- عنهم في سورة الأعراف أيضًا: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) (الأعراف: 138)؛ هذا بعد أن رأوا بأعينهم إغراق الله -تعالى- لفرعون وقومه، ونجاتهم من بطشه، وقد أنكر عليهم موسى -عليه السلام- هذا الطلب إنكارًا شديدًا؛ قال -تعالى-: (قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 138-140).
ثم كان اتخاذهم العجل لما ذهب موسى لميقات ربه، كما قال -تعالى- في سورة الأعراف المكية: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) (الأعراف: 148)؛ هذا رغم اعتراض نبيهم هارون -عليه السلام- وإنكاره عليهم، ولكنهم خالفوه، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي . قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) (طه:90-91)، وكما قال هارون لموسى -عليهما السلام-: (قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأعراف: 150).
وعن عنادهم وتبدليهم حكى القرآن المكي عنهم: (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ . فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ) (الأعراف: 161-162)؛ ولهذا وغيره أخبر -تعالى- في القرآن المكي أنه عاقبهم بأن يبعث عليهم مَن يسومهم سوء العذاب جيلًا بعد جيلٍ، وأنه كتب عليهم الشتات في الأرض؛ قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأعراف: 167)، وقال -تعالى- فيهم: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف: 168)، ولكنهم في الشتات ازدادوا ضلالًا، واتخذوا أحبارهم أربابًا من دون الله، وابتدعوا في الدِّين زاعمين أنهم شعب الله المختار الذي سيُغفر له كل خطيئة؛ حيث يمتلئ بذلك كتابهم التلمود -الذي كتبه لهم أحبارهم ويقدِّسونه- بالكثير من المزاعم الباطلة؛ قال -تعالى-: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الأعراف: 169).
ولا شك أن كلَّ هذه الآيات المكية ونحوها تعد معجزات من معجزات القرآن الكريم؛ وإلا فكيف جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلِّ هذا عن اليهود، وهو ليس من علمائهم أو أحبارهم، ولم يدرس كتبهم باستفاضة من قبل.
وثيقة المدينة:
وعندما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- إلى المدينة، ورغم الاختلاف الديني بينهم وبين اليهود، عقد النبي -صلى الله عليه وسلم- مع يهود المدينة معاهدة تضمنت:
- الدفاع المشترك عن المدينة: فجاء في صحيفة المعاهدة أن بينهم -أي: المسلمون واليهود- النصر على مَن دهم يثرب، وأن بينهم النصر على مَن حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.
- عدم الاعتداء وحسن الجوار: فجاء في الصحيفة أن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس؛ غير مضار ولا آثم، وأنه لا تجار حرة إلا بإذن أهلها، وأن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وألا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه مَن خرج آمِن، ومَن قعد آمِن بالمدينة؛ إلا مَن ظلم أو أثم.
- حرية العقيدة: فجاء في الصحيفة أن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
وهذه المعاهدة عُرِفت تاريخيًّا باسم: (وثيقة المدينة)، وقد حرص المسلمون على تنفيذها وعدم مخالفتها، بينما غلبت عادة اليهود في نكث العهود عليهم؛ فراحوا مع الوقت يثيرون القلاقل والمتاعب من حينٍ لآخر، ويكيدون للمسلمين للإطاحة بهم.
جحود اليهود:
ورغم ما عند اليهود في التوراة من صفات النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورغم أنهم رأوها فيه؛ فقد أبى زعمائهم المطاعون فيهم إلا عداوته وعدم الإيمان به!
ومما ورد في ذلك: ما رواه ابن إسحاق في السيرة عن أم المؤمنين صفية -رضي الله عنها-، وهي بنت حيي بن أخطب -من زعماء اليهود- أنها قالت: "كنتُ أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر -والولد في اللغة تطلق على الذكور والإناث كما قال -تعالى-: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (النساء: 11)- ولم ألقهما قط مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه، فلما قَدِم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ونزل قباء غَدَا عليه أبي وعمي مغلسين -أي: مبكرين في وقت الغلس-، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالين -أي: متعبين- كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم.
وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ -أي: أهو النبي الذي ورد ذكره في التوراة؟- قال: نعم والله. قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه، قال: عداوته والله ما بقيت!".
وكذلك كان باقي رؤساء أحبارهم، وذلك أنهم رأوه نبيًّا ليس من جنسهم، وهم يريدون نبيًّا منهم يقيم لهم مملكتهم من جديد، فلم يُسْلِم من اليهود إلا قليل، منهم: عبد الله بن سلام، وميمون بن يامين -رضي الله عنهما-.
إجلاء بني قينقاع:
بعد انتصار المسلمين في غزوة بدر الكبرى على قريش وعلو شأن المسلمين، ملأ الغيظ قلوب يهود بني قينقاع في المدينة، فجهروا بالعداء للمسلمين والتطاول عليهم، حتى قال قائلهم: "يا محمد، لا يغرك مِن نفسك أنك قتلتَ نفرًا في قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال؛ إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلقَ مثلنا"، وورد في كتب السيرة: "أن يهوديًّا منهم، تحرش بامرأة مسلمة قصدت سوق بني قينقاع حيث قام بعقد طرف ثوبها إلى ظهرها وهي غافلة، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا، فصاحت، فقام رجل من المسلمين فقتل ذلك اليهودي المعتدي، فتواثب باقي اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل هذا المسلم المسلمين، فوقع الشر بين المسلمين وبين بني قينقاع، فخرج إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بجيشه وحاصرهم في حصونهم، وذلك في شوال من السنة الثانية للهجرة، لمدة خمس عشرة ليلة حتى اشتد عليهم الحصار وقبلوا بالجلاء عن المدينة جزاء نقضهم للعهد".
إجلاء بني النضير:
أما بنو النضير، فقد أغاظ انتصار المسلمين في غزوة بدر زعيمهم كعب بن الأشرف، وكان شاعرًا له حصن يقيم فيه، فقام بهجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، وقام بزيارة مكة يبكي قتلاها ببدر، ويحرض أهلها على الأخذ بالثأر، فلما عاد إلى المدينة أخذ في التشبب بنساء المسلمين -أي: يتغزل فيهن ويعرض حبه عليهن-، فندب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قتله، فاحتال عليه بعض الصحابة بخدعة حتى قتله جزاء غدره وهجائه، وذلك في ربيع الأول من السنة الثالثة من الهجرة، ولم يؤاخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بني النضير بجريرة كعب، واكتفى بقتله وجدَّد عهده معهم، ولكنهم في ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة حاولوا اغتيال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو إلى جنب جدار مِن بيوتهم قاعد مع بعض أصحابه حيث أمروا واحدًا منهم أن يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه رحى فتقتله؛ فأخبر جبريل عليه السلام النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فغادر المكان ونجَّاه الله -تعالى- منهم.
ثم خرج لقتالهم، فلجأوا إلى حصونهم ليتحصنوا بها، ويرمون المسلمين بالنبل والحجارة منها، واستمر حصارهم ست ليال حتى اندحروا، وقبلوا الجلاء عن المدينة، على أن لهم ما أقلت الإبل إلا السلاح، وتوجه معظمهم إلى الشام، وذهب زعماؤهم إلى خيبر فنزلوا فيها، وأنزل الله -تعالى- في هذه الغزوة سورة الحشر بأكملها.
دور اليهود في غزوة الأحزاب:
ولما أقام بعض زعماء بني النضير بعد جلائهم عن المدينة إلى حصون خيبر التي تبعد ثماني برد عن المدينة من جهة الشام، وقد اشتعل الحقد في نفوسهم بدأوا في الاتصال بقريش؛ لحثها والقبائل الأخرى على غزو المدينة، واستطاعت قريش أن تجمع عشرة آلاف مقاتل من قريش والأحزاب لغزو المدينة، وذلك في السنة الخامسة من الهجرة.
ولما علم المسلمون بذلك؛ حفروا خندقًا في شمال المدينة، وهي الجهة الوحيدة المكشوفة أمام الغزاة، أما باقي الجهات فكانت محصنة إذ تتشابك فيها الأبنية مع أشجار النخيل الكثيرة وتحيطها الحرات ذات الأرض السبخة التي يصعب على الإبل والمشاة دخول المدينة منها.
ولما عجزت قريش والأحزاب عن اقتحام الخندق، حاصروا المدينة واشتد حصارهم لها، وزاد الخطب على المسلمين لما بلغهم أن يهود بني قريظة الذين يسكنون الجنوب الشرقي من المدينة قد أغرتهم قوة الأحزاب وعددهم، فنكثوا عهدهم مع المسلمين، وتواطؤا مع هؤلاء الأحزاب بتحريض حيي بن أخطب أحد زعماء بني النضير، وبذلك تعرَّض المسلمون للتهديد باقتحام المدينة وإمكانية توجيه ضربة لهم من الخلف بمعاونة هؤلاء اليهود ومن جهتهم، وبالتالي يتعرض المسلمين لخطر الاستئصال؛ إلا أن الله -تعالى- نصر المسلمين بريح عاصفة شديدة هبَّت على جموع الأحزاب؛ فاقتلعت خيامهم، وكفأت قدورهم، وأطفأت نيرانهم، وأجبرتهم على الرحيل؛ فتشتت شملهم، وانفك الحصار، فتنفس المسلمون الصعداء، قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) (الأحزاب: 9)، وقال -تعالى-: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) (الأحزاب: 25).
قتال بني قريظة:
وسرعان ما توجَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه بعد هزيمة الأحزاب لقتال بني قريظة الذين غدروا بهم، فحاصرهم حصارًا شديدًا حتى استسلموا، وقبلوا النزول على حكم سعد بن معاذ فيهم؛ لأنه كان حليفًا لهم قبل الإسلام، فحكم فيهم بقتل مقاتليهم وسبي نسائهم وذراريهم، وتقسيم أموالهم؛ فكان جزاؤهم مِن جنس عملهم حين عَرَّضوا أرواحَ المسلمين بخيانتهم للقتل، ونساءهم وذراريهم للسبي.
محاولة اغتيال النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسم:
بعد أن فتح المسلمون سنة سبع للهجرة حصون يهود خيبر، أهدت زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام بن مشكم اليهودي لصفية بنت حيي زوجة النبي -صلى الله عليه وسلم- شاة مصلية قد سمتها لقتل النبي -صلى الله عليه وسلم- بها، وأكثرت من السم في كتف الشاة؛ لأنها علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب الكتف، فلما تناول النبي -صلى الله عليه وسلم- الكتف وانتهش منها ومعه بعض أصحابه امتنع عن أكلها، وأخبر من معه أن كتف هذه الشاة أخبرته بأنها مسمومة، ثم دعا بالمرأة فاعترفت، وقد مات بعدها بسبب الأكل من هذه الشاة بشر بن البراء بن معرور -رضي الله عنه-، وقد اختلفت الروايات حول مصير هذه المرأة اليهودية؛ فقيل: عفا عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقيل: إنها أسلمت. وقيل قُتِلت. ولعله -صلى الله عليه وسلم- قد تجاوز عنها أولًا، فلما مات بشر مسمومًا بسبب السم الذي دسته في الشاة، قتلها قصاصًا. قال القاضي عياض: "فصح قولهم لم يقتلها أي: في الحال، ويصح قولهم قتلها أي: بعد ذلك. والله -تعالى- أعلم".
للاستزادة راجع:
- السيرة النبوية، للحافظ ابن كثير.
- الرحيق المختوم، لصفي الرحمن المباركفوري.
- يهود أسلموا في حياة النبي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، للدكتور علاء بكر.