كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد بدأت في شهر يوليو عام 1925 المفاوضات بين فرنسا وإسبانيا لمواجهة الأمير عبد الكريم الخطابي معًا، وكان هذا يمثِّل خطرًا كبيرًا على الأمير ودولة الريف؛ فالأمير وإن كان قد حارب الدولتين من قبل، لكن دون أن يكونا متحدين معًا في مواجهته، فتكتلهما معًا عبء جديد يجبره على زيادة مجهوداته.
اتفقت الدولتان على عقد مؤتمر بدأ في يوم 17 يونيو 1925م، وظل حتى يوم 25 يوليو لبحث سبل التعاون بينها في مواجهة الأمير عبد الكريم، وتقرر في المؤتمر:
- ضرورة منع وصول المواد الحربية والذخائر إلى الأمير عبد الكريم الخطابي؛ لذا وقَّعت الدولتان على اتفاقية في 24 يونيو تقضي بفرض رقابة بحرية مشتركة على معظم السواحل المغربية، مع السماح للسفن الإسبانية الحربية باللجوء إلى بعض الموانئ الجزائرية التي تحتلها فرنسا للتموين، وتم إخطار باقي الدول الأوروبية بتلك الاتفاقية.
- التوقيع على اتفاقية ثانية في يوم 21 يوليو لمراقبة التهريب من منطقة (طنجة) الدولية.
رغم توقيع هاتين الاتفاقيتين فإنهما لم يؤثرا تأثيرًا كبيرًا على الأمير عبد الكريم؛ لكونه لديه كميات من الأسلحة والذخائر التي حصل عليها من عملياته الحربية مع المستعمرين.
- عقد اتفاقية تسمح لطائرات كل منهما بالطيران فوق منطقة نفوذ الأخرى لتعقب الثوار وراء الحدود بين المنطقتين، بعد الاتفاق المبدئي على رسم خط مؤقت للحدود بينهما.
- تعهد الدولتين في اتفاقية سياسية وقع عليها في 11 يوليو بعدم عقد صلح منفرد مع الأمير، مع الاتفاق سرًّا على الشروط العامة التي لا يمكن قبول أي صلح بدونها.
وكانت هذه الاتفاقية السياسية أشد الاتفاقات بين الدولتين خطرًا على الأمير؛ خاصة وأن الأمير كان قد بدأ في مفاوضات مع إسبانيا بشأن عقد هدنة بينهما، لكنها توقفت مع بدء المباحثات الفرنسية الإسبانية، وعليه أعلنت إسبانيا أنها لن تعقد صلحًا منفردًا مع الأمير.
وقد وجدت إسبانيا في التعاون مع فرنسا فرصة سانحة لتصفية مشكلة الريف بالقيام بعمليات حربية جديدة وتصحيح فشل انسحابها إلى الساحل، وقد أثار الأمير عبد الكريم مسألة شروط الصلح مع الإسبان والفرنسيين، وتقدم بشروط دبلوماسية لا تبتعد كثيرًا عن الواقع تتضمن الاعتراف بالضفة الشمالية لنهر الورغة على أنها الحد الجنوبي لدولة الريف، والاعتراف بدخول كل منطقة الجبال داخل حدود تلك الدولة، مع إمكانية احتفاظ إسبانيا بقواعدها الأصلية في سبتة ومليلة علاوة على الاحتفاظ بمناجم الحديد التي تقع على بعد خمسة كيلومترات إلى الجنوب من مليلة.
ولما كانت شروط الاتفاق بين فرنسا وإسبانيا تتعارض مع شروط الأمير عبد الكريم للصلح أعلنت حكومتا الدولتين أنه لا يمكن الاعتراف باستقلال الريف المغربي، وأن الحرب ستستمر.
وكانت فرنسا في ذلك الوقت أشد حرصًا من إسبانيا على الدخول في عمليات عسكرية كبيرة؛ خاصة بعد جمعها لقوات عسكرية ضخمة من كل بلاد المغرب.
هجوم الدولتين الاستعماريتين:
عمل الفرنسيون على استعادة المواقع التي خسروها في شمال وادي الورغة، فاستخدموا في قطاع عملياتهم أحدث فنون الحروب إذ بدأوا بضرب القطاع كله بالمدفعية الثقيلة ضربًا متصلًا في 10 سبتمبر، ثم بدأوا الهجوم في اليوم التالي حيث أخذت القوات الفرنسية تتقدَّم بطريقة منتظمة ولمسافات قصيرة حتى تتمكن من فصل ومحاصرة وتطهير كل مرتفع في الانتقال إلى المرتفع التالي، وقد استمرت تلك العمليات في هذا القطاع حتى يوم 27 أكتوبر، بعدها أقام الجنود الفرنسيون مواقع ثابتة لهم في القطاع لكي يمضوا فيها فصل الشتاء، حيث يتعذر استمرار العمليات للظروف الجوية.
وقد تمكَّنت حملة إسبانيه في المدة بين 11 و16 سبتمبر من النزول على الساحل عند نقطة تقع إلى الغرب من خليج الحسيمة، ثم توغلت ابتداءً من 2 أكتوبر في سهل أجدير، بينما كانت القوة الفرنسية الزاحفة من (تازا) تسابق العوامل الجوية للوصول إلى مقدمة القوات الإسبانية الزاحفة من مليلة وأجدير.
وقد اتصل خيالة الفرنسيين المتقدمين من تازا في يوم 6 أكتوبر بخيالة الإسبانيين المتقدمين من مليلة، بينما وصلت قوات الحملة الإسبانية الزاحفة على طريق أجدير إلى (سيدي علي بورقبة) التي تقع على 40 كيلومتر من أجدير في يوم 10 أكتوبر، ولكن الاتصال بين القوات الفرنسية الزاحفة تجاه الشمال والقوات الإسبانية الزاحفة تجاه الجنوب لم يتم.
ومع ازدياد الأمطار توقفت العمليات؛ فاضطرت فرنسا إلى سحب فرسانها من (سيدي علي بورقبة) إلى سوق السبت، وسحب مشاتها إلى مرتفعات خط تقسيم المياه بين الريف وحوض الملوية، وهكذا منعت الظروف الجوية فرنسا وإسبانيا من استكمال العمليات الحربية، بينما اضطر الأمير عبد الكريم إلى نقل عاصمته ومقر قيادته إلى الداخل، إلى الجنوب الغربي من (تارجست).
وقد تمكَّن رجال الأمير في أثناء هذه العمليات من احتلال 9 مواقع فرنسية ونسف موقعين، وإجبار العدو على إخلاء 32 موقعًا؛ أي: أن الفرنسيين خسروا 43 موقعًا من جملة 66 موقعًا لهم، ولكن الفرنسيين تمكَّنوا من استعادة 21 موقعًا، وأنشأوا لهم مواقع جديدة خاصة في قطاع تازا، كما احتلوا مرتفعات تقسيم المياه التي تشرف على جنوب أجدير.
كانت قوات الأمير عند بداية هجوم الربيع قد بلغت 35 ألف مجاهد، منهم 25 ألفًا من الريف و10 آلاف من الجبالا، ثم انضم إليهم رجال كثيرون من القبائل المحررة في منطقة النفوذ الفرنسي، فقدر الفرنسيون قوات الأمير بنحو 100 ألف مقاتل، لكنه خسر ما يقرب من 20 ألف خلال تقهقره في فصل الخريف أمام تقدُّم القوات الفرنسية واحتلالها لأراضي بعض هذه القبائل.
أما القوات الفرنسية فقد بلغت بعد وصول الإمدادات الكبيرة لهم في المغرب في أوائل شهر يوليو 11 كتيبة من الفرنسيين، وقوة كبيرة من وحدات المدفعية والوحدات المساعدة؛ بالإضافة إلى المجندين من التونسيين والجزائريين والمغاربة الذين جندتهم فرنسا في قواتها الاستعمارية، وعند بداية الهجوم الفرنسي في الخريف في 10 سبتمبر كان هناك 7 فرق كاملة تحت القيادة الفرنسية، اثنتان في كل قطاع على الجبهة من القطاعات الثلاث، وواحدة تمثِّل قوة احتياطية في مدينة (فاس)، وقد اشتملت تلك الفِرَق السبع على 114 كتيبة مشاة، و25 كتيبة فرسان و22 سربًا من الطائرات في كل سرب منها 6 طائرات، فكان مجموع هذه القوات 158 ألف جندي، منهم 12 ألف من الفرنسيين، و12800 من أجناس أوروبية، و133 ألف من أهالي ومجندي بلاد المغرب، أي: بنسبة 85 % من مجموع القوات، وذلك أن فرنسا أصبحت تعتمد على القوة البشرية الموجودة في شمال إفريقية للمحافظة على حكمها في مناطق نفوذها؛ إذ إن الرأي العام الفرنسي كان قد أجبر الحكومة على السير في هذه السياسة نتيجة لانخفاض نسبة المواليد في فرنسا، ونتيجة لخسائر فرنسا في الحرب العالمية الأولى، وعدم ترحيب الرأي العام الفرنسي بالخدمة في شمال إفريقية.
وقد بلغت خسائر الفرنسيين مع نهاية شهر يوليو 1275 قتيلًا و5306 جريحًا، ولكنها زادت خلال الهجوم الخريفي المضاد من أول أغسطس حتى 15 أكتوبر بعدد جديد بلغ 891 قتيلا و2991 جريحا، لكن كان القسم الأكبر منهم من أبناء المغرب العربي الذين خسروا إسلامهم فباعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، وقد كلفت العمليات الحربية فرنسا حتى 21 أكتوبر مبلغ 950 مليون فرنك علاوة على معدات أرسلت من فرنسا قيمتها 400 مليون فرنك.
أما القوات الإسبانية الموجودة في شمال إفريقية؛ فقد بلغ عددها 69290 إسبانيا بعد انسحاب عام 1924 علاوة على 15 ألف جندي من المغاربة، وقد زادت القوات مع الإمدادات في هجوم الخريف إلى 118 ألف جندي أغلبيتهم الساحقة من الإسبان، وهذا يعني أن مجموع القوتين الفرنسية والإسبانية في شمال المغرب بلغ نحو 280 ألف جندي في مواجهة 60 ألف من المجاهدين.
وقد أثبت واقع الأمر بعد توقف العمليات بسبب الأحوال الجوية أن الصراع بين الطرفين المتحاربين سيكون صعبًا وطويلًا؛ فبعد أن نجح الأمير عبد الكريم في هجومه في الربيع في تحطيم خط الدفاع الفرنسي عند الورغة والوصول إلى أبواب تازا، فإن الفرنسيين والإسبان قد نجحا في هجومهما المضاد في الخريف، وحقَّقوا انتصارات جديدة ضد قوات الأمير.
جاء الشتاء على المجاهدين بما فيه من البرد القارس وسقوط الأمطار، وتغطية قمم الجبال بالثلوج وانهيار بعض جوانب الطرق، بما يعني صعوبة المواصلات، ونقص التموين في ظل تطويق القوات الاستعمارية البرية من الجنوب، وتطويق سفن الأساطيل الفرنسية والإسبانية للسواحل الشمالية، وقد ساهم ذلك في إنهاك قوى المجاهدين، وفي التأثير على روحهم المعنوية رغم بقاء الإصرار على المقاومة.
وكانت ضخامة إمكانيات القوى الاستعمارية في مواجهة المجاهدين تجعل الفارق كبيرًا بين معدات وأسلحة وتموين الطرفين؛ خاصة في ظل التعاون بين فرنسا وإسبانيا، فمع ازدياد عدد القوات والأسلحة والمعدات ظهرت أسلحة جديدة منها المدرعات (المصفحات) ومدافع الجبال مع زيادة في عدد الطائرات لاستخدامها في عمليات الاستكشاف وتوجيه المدفعية مما يصير معها فاعلية أكبر للقوات، وأصبح بالتالي على الثوار مواجهة المصفحات الفرنسية على الأرض والطائرات الفرنسية المغيرة في السماء.
وزاد الأمر صعوبة: ترابط المصالح الاقتصادية بين الدول الأوروبية الاستعمارية، وازدهار الاقتصاد الأوروبي القائم على التسلُّط على بقية العالم واستغلال مناطقه، مع فقد المجاهدين معه تحرك الضمير العالمي أو حتى وساطة من الدول.
كانت دوافع فرنسا للوصول إلى نتيجة حاسمة في حربها في المغرب تنبع من خشيتها من امتداد نفوذ ثورة المجاهدين إلى ثورات أخرى موازية لها أو متعاونة معها، كما كان الموقف السياسي في فرنسا نفسها يضغط على الحكومة الفرنسية للحل الحاسم في ميدان العمليات، أما دوافع إسبانيا فترجع إلى أن ثورة المجاهدين هي في مناطق نفوذها، وتهدد وجودها فيها.
وقد كان توغل القوات الفرنسية داخل منطقة الريف يهدد بتقسيمها ويؤثر على سهولة الاتصال فيها، وقد سعت القيادة الفرنسية في المغرب من خلال قوات غير نظامية إلى الدخول في أراضي القبائل المجاورة للأمير وإجبار الأهالي على الدخول تحت طاعة الفرنسيين وتقديم الخدمات لهم، كما حدث مع أبناء مصباح من قبائل صنهاجة.
محاولة التفاوض:
ومع توالي استعدادات فرنسا وإسبانيا لمواصلة العمليات الحربية في فصل الربيع استشعر الأمير عبد الكريم خطورة الموقف، فأعلن عن استعداده للتفاوض من أجل الصلح، وعرض السماح للأسرى الفرنسيين والإسبان بالاتصال بذويهم وإرسال الملابس والأدوية والأطعمة لهم، وعليه توجهت بعثة طبية أوروبية إلى (تارجست)، وصحب ذلك اقتراحات جديدة للمفاوضات، ولكن حكومتا فرنسا وإسبانيا كانتا غير راغبتين في ترك الفرصة المواتية لهما أن تفلت منهما، وسعتا بإصرار إلى استغلال تفوق إمكانياتهما المادية والعسكرية في فرض الشروط التي يرغبا فيها بالقوة على رجال الريف.
استمرت المفاوضات بين الطرفين في مؤتمر للصلح من 27 أبريل 1926م إلى 6 مايو، وتأزمت المفاوضات حول نزع سلاح القبائل والاعتراف بالمولى يوسف سلطان المغرب الذي هو تحت الحماية الإسبانية، مقابل الحصول على استقلال ذاتي مشروط.
استئناف القتال:
بدأ الهجوم الفرنسي الإسباني بغارات الطيران وإلقاء قنابلها يوم 7 مايو 1926م، ثم تقدم القوات الفرنسية والإسبانية في صبيحة اليوم التالي صوب (تارجست) من اتجاهين، ورغم المقاومة التي كبدت المهاجمين خسائر كبيرة احتلت القوات الإسبانية (أنوال) يوم 18 مايو، ودخلت قوات غير نظامية من المغاربة (تارجست) يوم 23 مايو، وبين المدينتين أصبح الطريق إلى إقليم (بنووبياغل) مفتوحًا، فطالب الأمير عبد الكريم بوقف القتال.
العودة إلى المفاوضات:
رأى الأمير عبد الكريم أنه في موقف لا يحسد عليه، فرغم نجاحه في تنظيم رجاله وتسليحهم والنزول بهم إلى العمليات الحربية، ولكنه مع طول مدة الحرب وضعف الإمكانيات، مع فرض الحصار البحري عليه، وتفوق العدو في العدد والعدة، بالإضافة إلى أن الإقليم الصغير الفقير قد تناقصت فيه جهود الزراعة والرعي والإنتاج الضرورية لتوفير القوت للمجاهدين؛ بسبب الانشغال بالعمليات الحربية والإعداد لها؛ فأصبح -في رأي الأمير- الاستمرار في الحرب أطول من ذلك أشبه بعملية انتحارية، وأن دخول قوات الأعداء لنزع سلاح القبائل بالقوة يعني انتشار القتل والسلب والنهب وهتك الأعراض، وما يحمله ذلك من خراب ودمار؛ لذا أجبره كل ذلك على التفاوض.
وقد حاول الأمير في هذا التفاوض أن يحصل على أحسن الشروط الممكنة لبلاده قبل أن تكون لنفسه، وقد عَلَّق الأعداء في هذا التفاوض على الأهمية الكبرى لتسليم الأمير نفسه.
وفي يوم 26 مايو 1926 أمر الأمير عبد الكريم الخطابي بإطلاق سراح الأسرى الأوروبيين الموجودين لديه، وفي صبيحة اليوم التالي دخل الأمير بفرسه وسط خطوط الفرنسيين ليسلِّم نفسه، وقد قابلته القوة الفرنسية مقابلة القائد العسكري فقامت بتحيته التحية العسكرية، وسافر الأمير في اليوم التالي إلى تازا، وقد اتفقت حكومتا فرنسا وإسبانيا على إرسال الأمير عبد الكريم مع أسرته وبعض أتباعه المقربين إلى المنفى في (جزيرة ريونيون).
الأمير في المنفى:
استسلم الأمير لقضاء الله تعالى وقدره، فعاش في المنفى في عزلة من عام 1926م إلى عام 1932م ممتنعًا عن الشكوى؛ رغم سوء المعاملة، وسوء جو الجزيرة الذي لا يناسب رجل من رجال الجبال، حيث كانت درجة الحرارة مرتفعة، ونسبة بخار الماء في الهواء كبيرة تؤثِّر على رئتيه، فكان يقضي أوقاته في قراءة القرآن والصلاة، ورعاية أولاده، والتدريس لهم بنفسه.
بدأ الأمير بعد هذه السنوات الست في الشكوى لحاكم الجزيرة بسبب سوء الأحوال المناخية ومعاناة عائلته؛ خاصة أن أولاده قد شبوا واحتاجوا إلى المزيد من التعليم، وليس هناك داع لتعرضهم للعقوبة معه في هذه الجزيرة المعزولة، ولكن فرنسا التي كانت تحتفل وقتها بمرور مائة عام على احتلالها للجزائر لم توافق على الملاينة مع الأمير.
اختارت فرنسا المولى محمد بن يوسف الابن الثالث للمولى يوسف لكي يصبح سلطانًا على المغرب الأقصى بعد وفاة أبيه عام1927م، وخلال -وبعد- الحرب العالمية الثانية أظهر سلطان المغرب نضجًا وتطورًا، فرأى الوقوف إلى جانب حركة حزب الاستقلال الذي قادها عددٌ من رجال المغرب الأقصى مطالبين بالحصول على بعض حقوق المغرب من فرنسا؛ فتدهورت علاقة فرنسا بالسلطان نتيجة تأييده لحركة حزب الاستقلال، الذي اتخذ قرارًا بمنح سلطان المغرب لقب الملك محمد الخامس.
وقد رأت فرنسا في ازدياد نفوذ الملك تعارضًا مع مصالحها وامتيازاتها، فقررت فيما قررت من إجراءات لمواجهة الملك، الإفراج عن الأمير عبد الكريم وأسرته وأتباعه، وعودته، لكن إلى فرنسا نفسها، وذلك في الأسبوع الأخير من شهر مارس 1947م ليكون ورقة تلوح بها في وجه محمد الخامس بإمكانية عودة الأمير إلى بلاده.
الأمير في القاهرة:
أعدت فرنسا مقرًّا للأمير بالقرب من مرسيليا للعيش فيه، وركب الأمير ومَن معه إحدى السفن، وخلال سير السفينة في قناة السويس، طلب الأمير ومَن معه اللجوء السياسي على مصر، وأعطته القاهرة هذا الحق.
قامت القاهرة مع نهاية الحرب العالمية الثانية بدور رئيسي في تجميع قوى التحرر في العالم العربي؛ خاصة بعد إنشاء الجامعة العربية؛ لذا شهدت مجيء الكثير من الملوك والرؤساء للتشاور بخصوص القضايا والمشكلات العربية، كمشكلة فلسطين ومشكلة استقلال ليبيا، ومشكلة التحرر في دول المغرب العربي، وكانت القوى العربية النامية قد أخذت في النضوج والتكتل للحصول على حقوقها، خاصة بعد ما تعرَّضت له الدول الاستعمارية الأوروبية خلال الحرب العالية الثانية، وظهور دول أخرى كبيرة: كأمريكا، والاتحاد السوفيتي، والصين، وإنشاء منظمة الأمم المتحدة وبعد الإعلان عن حقوق الإنسان.
ورغم أن لجوء الأمير السياسي إلى القاهرة كان يمنعه من الاشتغال بالسياسة؛ إلا أن أحدًا لم يكن في وسعه منع الرجل من ذلك، فشارك في عملية التنظيم والتوجيه للعناصر الجزائرية والمغربية التي كانت تقيم بالقاهرة، واتخذت من الكفاح السياسي سبيلًا لها، والتي كانت تزوره بصفته مجاهدًا وقائدًا، وأبًا روحيًّا لها، وقد شهدت القاهرة نشأة مكتب المغرب العربي، فكان المكتب هو مركز نشاط الأمير السياسي.
بعد ثورة يوليو 1952 أصبح التحرير هو شعار القاهرة، وظهرت جبهة تحرير المغرب فواجهتها فرنسا بالشدة والعنف مما أشعل حركة المقاومة المسلحة بتأييد من القاهرة لتحرير بلاد المغرب العربي، ومع عجز فرنسا عن مواجهة قوات التحرير وجماعات المقاومة، وبعد سيطرة جيش التحرير المغربي على الأقاليم الشمالية والوسطى من البلاد في المغرب، قررت فرنسا إعادة الملك محمد الخامس للبلاد بعد أن كانت قد نفته من قبل، فاستقبله الشعب استقبالًا شعبيًّا كبيرًا، فكانت عودته تعني انتهاء نظام الحماية والاعتراف باستقلال المغرب.
استمر الأمير عبد الكريم في إقامته بالقاهرة، وقد شعر أنها مركز ثقل التحرر للعالم العربي، مما جعله يؤجل عودته لبلاده رغم دعوة الملك محمد الخامس له للعودة إلى بلاده عام 1959؛ خاصة بعد أن تقدَّم سن الأمير وثقلت حركته، واحتاج إلى الرعاية الطبية؛ مما جعله يرغب في أن يدفن في القاهرة، فتحقق له ما أراد فدفن بها بعد وفاته بها في نوفمبر 1962م.
للاستزادة راجع:
- (عبد الكريم الخطابي) د. جلال يحيى - سلسلة أعلام العرب رقم 78 - ط. دار الكاتب العربي - يونيو 1968 م.