كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيميل البعض إلى اعتبار بداية اكتشاف المسلمين لتقدم أوروبا ودخولها عصر النهضة الحديثة مرتبطة بمجيء الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت إلى مصر عام 1798م، وأنها أظهرت مدى التفوق العسكري والعلمي لفرنسا وأوروبا.
والحقيقة: إن هذه النظرة تفتقد الدقة؛ إذ إن الأتراك العثمانيين وقت أن كانوا يقودون جزءا كبيرا من العالم الإسلامي أدركوا قبل قرن من مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر أن القوة العسكرية الأوروبية باتت متفوقة على العسكرية العثمانية، وهو ما دفع الأتراك العثمانيين على امتداد عقود القرن الثامن عشر الميلادي إلى القيام بمحاولات لاكتشاف ما عليه الأوروبيون مِن تقدُّم علمي وعسكري ومجاراته، وهذه المحاولات لاكتشاف هذه النهضة والاستفادة منها، وإن انحصرت وقتها داخل الإطار التركي فلم تمتد إلى الولايات العربية والإسلامية الأخرى، وهذه التجربة العثمانية للتحديث اتخذت بعد ذلك مسارًا غير متوقع تمامًا خلال القرن العشرين جعل مصير تركيا السياسي ينفصل تمامًا عن مصير العالم العربي والإسلامي السياسي بعد إلغاء كمال أتاتورك للسلطنة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى وإعلان الجمهورية.
ولنبدأ التعرف على جذور هذه القصة من أولها لأهميتها:
- معلوم أن الاحتكاك العسكري بين المسلمين والروم بدأ مبكرًا جدًّا متمثلًا في غزوة تبوك في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما كان بعدها من انطلاق العرب المسلمين لنشر الإسلام خارج الجزيرة العربية في الشام في مواجهة البيزنطيين الذين امتد نفوذهم قبل ظهور الإسلام إلى الشام وأجزاء من شمال إفريقيا.
ومن خلال الفتوحات الإسلامية العظيمة انتشر الإسلام سريعًا في رقعة واسعة في آسيا وشمال إفريقية والأندلس، وترتَّب عليه دخول شعوب مختلفة في قارات العالم القديمة الثلاث طواعية في دين الإسلام، وبالتالي ميلاد دولة قوية جديدة إلى جانب -وعلى حساب- العوالم القديمة في أوروبا، وفارس، والهند، والصين، حيث انصهرت حضارات وثقافات شعوب تلك البلاد في بوتقة الإسلام خلال قرون طويلة من هيمنة الدِّين الإسلامي، حتى مع فقد العنصر العربي للتفوق العددي في الدولة الإسلامية التي صارت مترامية الأطراف تمتد من بلاد الأندلس (إسبانيا والبرتغال حاليًا)، وطنجة غربًا إلى الهند وأطراف الصين شرقًا.
وفي الوقت الذي نجح فيه المسلمون في إزالة دولة الفرس وفي إخراج البيزنطيين من الشام وشمال إفريقية، وفي إقامة دولة إسلامية في الأندلس لعدة قرون؛ إلا أنهم لم ينجحوا في القضاء على الدولة البيزنطية نفسها في أوروبا رغم الحروب الطويلة بين الطرفين بداية من القرن السابع الميلادي والتي امتدت لعِدَّة قرون ظلَّت خلالها القسطنطينية -عاصمة الدولة البيزنطية- مهددة بالسقوط.
- ورغم الصراع العسكري الطويل المحتد بين الطرفين؛ فلم تكن الاتصالات بينهما معدومة؛ إذ يسجِّل التاريخ سفارات عديدة متبادلة بين خلفاء للدولة الإسلامية وحكام للدولة البيزنطية، وبعض ملوك أوروبا، وكذلك ساهمت الحروب الصليبية في اهتمام أوروبا بالعالم الإسلامي، ومحاولة التعرف عليه.
الدولة العثمانية وأوروبا:
لم تتوسع القبائل التركية ولم تتحول من إمارة إلى دولة كبيرة؛ إلا على حساب أراضي السلاجقة في الأناضول والبيزنطيين في أوروبا، وسرعان ما ورث الأتراك العثمانيون تركات الدولة السلجوقية، فجددوا الفتوحات الإسلامية في آسيا الصغرى والأناضول، وحققوا حلم المسلمين القديم في فتح القسطنطينية عام 1453 بقيادة السلطان محمد الفاتح، السلطان العثماني السابع، وبالتالي قضوا على الدولة البيزنطية.
وفي عام 1517 دخل السلطان التركي سليم الأول مصر، وسيطر ابنه من بعده على أجزاء من المشرق العربي وشمال إفريقية، فتمكَّن سليمان القانوني -عاشر السلاطين الأتراك- من التوغل داخل شرق ووسط أوروبا حتى قارب فيينا (عاصمة النمسا) عام 1529م، وأصبح البحر الأبيض المتوسط تحت سيطرة البحرية العثمانية.
وخلال قرون من التواجد العثماني في أوروبا تعرَّضت الدولة العثمانية كقوة عسكرية لها شأنها وتخوض حروبا متتالية للدخول في صراعات تارة وتحالفات أخرى مع دول غرب أوروبا، منها على سبيل المثال: تحالف السلطان سليمان القانوني مع ملك فرنسا (فرانسوا الأول)، والذي دام طويلا، وزامنت تلك التحالفات إقامة سفارات أوروبية في عاصمة الدولة العثمانية إستانبول.
وكما حمل القرنان: الخامس عشر، والسادس عشر الميلاديان تقدُّم الأتراك العثمانيون في آسيا الصغرى، وشرق ووسط أوروبا، في وقت فيه عانت أوروبا من الانقسام إلى ممالك وإمارات، كان تلاشي الإسلام في الأندلس، وكانت بداية الاكتشافات الجغرافية لدول أوروبا الغربية، التي مكَّنت أوروبا من خيرات قارة جديدة، وسهَّلت لها الالتفاف حول إفريقية والوصول إلى جنوب آسيا وشرقها، وعقد معاهدات وإنشاء شركات تجارية والسيطرة البحرية على تلك المناطق وإقامة العديد من المستعمرات، وأعقب ذلك تطلعها إلى إقامة نهضة مادية وعسكرية تضع أوروبا في الصدارة والتفوق المادي.
وعلى ذلك شهدت الأقاليم الإسلامية البعيدة عن سيطرة الدولة العثمانية بعد هذه الاكتشافات الجغرافية تواجدًا أوروبيًّا؛ إذ دخل بعض المدن الهندية الساحلية -التي تضم خليطًا من السكان المسلمين والهنود- مِن: مستكشفين، وتجار، وجنود أوروبيين، وتكوَّنت مستعمرات أوروبية في عددٍ من هذه المدن.
وفي القرن السابع عشر دخلت اللغات المحلية بعض مفردات اللغة البرتغالية، وأقامت جاليات من عائلات إنجليزية مواقع ثابتة لها في مدينة (مدرس)؛ تلا ذلك حضور جاليات أخرى فرنسية وهولندية، وغيرهما، ومع دخول القرن الثامن عشر كانت بعض المدن هناك قد عرفت صورًا من المؤثرات الأوروبية في مجالات الحياة المادية والثقافية.
وهكذا كان المسلمون في الهند من أوائل مَن عرفوا المؤثرات الأوروبية بسبب تواجد البحارة والتجار الأوروبيين، والشركات التجارية لعددٍ من الدول الأوروبية.
وفي المشرق قامت بعض الاتصالات بين بعض الأمراء المحليين وبين بعض ملوك أوروبا عبر السفارات تعرفوا منها على بعض مظاهر التقدم الأوروبي، وقام الأمير (فخر الدين المعني) بتجربة اتصال مع إيطاليا في بداية القرن السابع عشر تعرف من خلالها على التنظيم العسكري المتبع في إيطاليا وصناعة السلاح، واطلع على الأساليب المتقدمة في الزراعة والبناء، وحاول الاستفادة من مشاهداته تلك بعد عودته إلى لبنان.
الدولة العثمانية من القوة إلى الانحدار:
كانت الدولة العثمانية دولة تقليدية كسابقتها من الدول الإسلامية، حيث يمثِّل السلطان التركي فيها رأس السلطة، وقد أعطى لقب الخليفة لقوة الدولة العثمانية وتصدرها للعالم الإسلامي، يليه الوزير الأعظم، وكان هناك منصبًا جديدًا أوجده العثمانيون، وهو منصب شيخ الإسلام، يعادل في نفوذه منصب الوزير الأعظم، كان النفوذ الفعلي لشيخ الإسلام يتفاوت مِن زمن لآخر، ومع أن السلطان هو الذي يتولى تعيين شيخ الإسلام، ففي بعض الفترات التاريخية كانت فتوى شيخ الإسلام كافية لإقالة السلطان نفسه، كما نظَّمت الدولة العثمانية قوات نظامية مقاتلة عُرِفت بالقوات الإنكشارية، التي تعد حرس السلطان الذي يشاركه في المعارك والحروب، وكانت هذه القوات بأعداد كبيرة مأخوذة من المناطق المفتوحة، حيث يتم إعدادها وتدريبها من الصغر تدريبًا عسكريًّا صارمًا، ولهذه القوات قائد يعرف باسم الـ(أغا)، وكانت منزلته تالية لمنزلة الوزير الأعظم وشيخ الإسلام.
وقد تمتعت الدولة العثمانية بالقوة والنفوذ طوال مدة الانتصارات المدوية للدولة، والتي بلغت أوج قوتها ومجدها في عهد السلطان سليمان القانوني، ثم بدأت بعده في التدهور الداخلي، وظهرت تدريجيًّا ملامح الضعف والتأخر، وإن احتفظت الدولة بهيبتها وقوتها أمام أعدائها في أوروبا.
ومن ملامح ذلك الضعف: تغلغل البدع والانحرافات، وتدهور الإدارة في البلاد، وتزايد نفقات القوات الإنكشارية، وتعاظم نفوذها على حساب السلطات المدنية في الدولة، مع بداية التناقص في قدراتها العسكرية.
ويشير إلى بدايات ظهور هذا الضعف ما كتبه لطفي باشا، أحد وزراء السلطان سليمان القانوني، في رسالة له بعنوان: (آصاف نامة) جمع فيها الأفكار الأولى حول المسائل المتعلقة ببعض مظاهر تدهور مؤسسات الدولة، فتناول ما يجب أن يكون عليه الوزير من صفات، والأحوال العسكرية، وأمور تدبير الخزانة والنظر في شئون الرعية، وهو ما أكَّد عليه وتناوله مصلحون آخرون في أوقات لاحقة بعد ذلك مع تزايد الضعف والتدهور؛ خاصة عندما تعاقب خمسة سلاطين على الحكم خلال مدة عشرين سنة فقط، بسبب صراع السلاطين مع أغوات الإنكشارية.
وكان من أمثلة ذلك: محاولة (قوجي بيك) -وكان عضوًا في إدارة السلطان وقريبًا بحكم عمله من الأحداث- لشرح ومعالجة أسباب تدهور الدولة في رسالة قدَّمها إلى السلطان مراد الرابع، وكان مقربًا منه ومربيًّا له، وذلك عام 1630م، كما أنه رفع رسالة أخرى مماثلة إلى السلطان إبراهيم الذي تولَّى السلطنة بين عامي: 1640م و1648م.
وكانت هذه الحقبة قد شهدت مقتل السلطان عثمان الثاني؛ الذي انتهز ضعف عمه السلطان مصطفى فخلعه، وعندما قام السلطان عثمان الثاني ببعض التنظيمات للإصلاح في الإدارة والعسكرية قام العداء بينه وبين قادة الانكشارية، فلما زاد العداء بينهما قامت ثورة قادها أغا الانكشارية انتهت بمقتل السلطان عثمان الثاني عام 1623م، فكانت المرة الأولى التي يقتل فيها سلطان تركي من قِبَل أعوانه، وكان مقتله بداية لصراع داخلي على النفوذ بين السلاطين من ناحية وقادة الانكشارية من ناحية أخرى، وهو الصراع الذي امتد لقرابة قرنين من الزمان، إلى أن تمكَّن السلطان محمود الثاني عام 1826 من القضاء على القوات الانكشارية.
وبعد سنوات قليلة، كتب حاجي خليفة أيضًا رسالة مماثلة بعنوان: (دستور العمل لإصلاح الخلل) رفعها إلى السلطان محمد الرابع عام 1653م، ومن بعده كانت أيضًا محاولة (حسين هزارفن) في كتابه: (تلخيص البيان في قوانين آل عثمان) عام 1669م؛ إلا أنه كان أشد قسوة في نقده للمسؤولين، ومن بعده كان (ساري محمد باشا) في كتابه: (نصائح الوزراء والأمراء) عام 1703م.
وتعد هزيمة (كارلويتز) عام 1699م علامة تاريخية فارقة في تاريخ الدولة العثمانية ترتب عليها فقد الدولة العثمانية لأراضٍ شاسعة في ترانسلفانيا، والمجر، وسلوفانيا، وكرواتيا، ثم كانت الهزيمة الثانية وتوقيع معاهدة (بازارويتز) التي نصت على التخلي عن بلجراد وأراضي حول الدانوب، وقد أكَّد ذلك ضعف القوات الإنكشارية، والحاجة إلى الإصلاح لمنع تدهور الدولة وانحدارها.
وبعيدًا عن الطبقة الحاكمة كان هناك مِن العثمانيين مَن يراقب مظاهر التقدم في أوروبا، كما في كتاب المؤرخ التركي: (منجم باشي) صاحب كتاب: (جامع الدول)، الذي كتبه في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وخصص فيه فصولًا عن تواريخ الدول الأوروبية، كما ألَّف (إبراهيم متفرقة) كتابه: (أصول الحكم في نظام الأمم)، الذي صدر عام 1731م، فكان أول محاولة نظرية تطرح الاستفادة من علوم أوروبا العسكرية والإدارية؛ خاصة بعد أن أدركت الطبقة الحاكمة في إستانبول بعد الهزيمة من روسيا أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر: أن سبب تفوق روسيا هو الإصلاحات التي أدخلها بطرس الأكبر على قواته العسكرية ومؤسسات الدولة بعد فتح الباب للمؤثرات الأوروبية الحديثة.
محاولات للتغيير:
تولَّى السلطان أحمد الثالث الحكم من عام 1703 إلى عام 1730م في ظل هزيمة تركيا أمام روسيا، فمال إلى تحقيق السلام مع الدول المحيطة به، ومد الجسور مع عواصم أوروبا، وتقليدها في مظاهر العمران وبناء القصور والحياة الاجتماعية، وبعض المظاهر العسكرية، وشجع حركة الترجمة عن اللغات الأوروبية دون تمييز للصحيح من السقيم؛ وتم هذا في بذخ تأثَّر به بلاطه بعيدًا عن بذل الهمة في أسواق الصناعة والفنون، فقامت القوى المحافظة بإرغام أحمد الثالث على التنازل عن الحكم، فخلَّفه السلطان محمود الأول، الذي تولى الحكم حتى عام 1754م.
وفي عهده حدثت تطورات في مجال الانفتاح غير المحسوب على أوروبا حيث قام (أحمد بونفال)، وهو فرنسي سبق له أن خدم كضابط في الجيش الفرنسي ثم في الجيش النمساوي، ثم استقر في إستانبول ودخل في الإسلام، وكان له دور في تأسيس مدرسة للهندسة وإقامة قسم جديد للمدفعية، وساهم في إدخال قسم خاص بالطب في الجيش العثماني إلى جانب التثقيف السياسي والعسكري لأفراد في الطبقة الحاكمة، كما أوصى الباب العالي بضرورة التحالف مع فرنسا، فكانت جهوده تلك أول خطوات تغريب ممزوج بالتحديث للمؤسسة العسكرية العثمانية، وبداية تكوين طبقة جديدة من العثمانيين ظنت أنها تأخذ من الغرب حلوه دون مره.
وفي عهد السلطان عثمان الذي حكم حتى عام 1757 أسس وزيره (راغب باشا) مكتبة عامة ضخمة في إستانبول، وأمر بترجمة كتب عديدة من اللغات الأوروبية، منها: كتاب (فولتير) عن فلسفة نيوتن، ومؤلفات الطبيب الإنجليزي (سيدنهام).
وإمعانا في التأثر بالتغريب، أوفد السلطان مصطفى الثالث الذي حكم حتى عام 1773م، السفارات إلى عواصم أوروبا، واستخدم الضابط الفرنسي البارون دو توت -وكان على النصرانية- والذي أرسلته الحكومة الفرنسية لدراسة الوضع العسكري العثماني، فسمحت الدولة العثمانية للضابط الفرنسي النصراني بإنشاء فرقة جديدة من قوات المدفعية، وتنظيم الطوبخانة والترسانة، وتأسيس مدرسة بحرية، كل ذلك على غرار النظم الغربية، شكلًا ومضمونًا وفكرًا.
وقد شهد عهد السلطان عبد الحميد الأول، الذي حكم حتى عام 1789م، اعتمادا على الخبراء الفرنسيين، لكن مع إعلان الحرب على روسيا المتحالفة مع النمسا التزمت فرنسا الحياد وسحبت خبرائها من إستانبول، وقد انتهت مدة الحرب بمعاهدة (جاسي) عام 1792م.
جاء عهد السلطان سليم الثالث الذي كان معجبًا بالنظام الأوروبي ومتأثرًا بزهوه، وراجيا في مساعدة فرنسا له، فكوَّن مجلسًا استشاريًّا من معاونيه ورجال إدارته مع إشراك اثنين من غير المسلمين، أحدهما: فرنسي، والآخر أرمني، وقد تمخَّض المجلس عن إعلان ما عُرِف باسم: (النظام الجديد)، وهو عبارة عن مجموعة من التنظيمات الهادفة إلى إدخال تغييرات في المجالين: العسكري والإداري والمالي على المثال الأوروبي، وزامن ذلك إلزامية تدريس اللغة الفرنسية في بعض المعاهد.
ومع بداية القرن التاسع عشر أعدَّ السلطان سليم مشروعًا لإلغاء الإنكشارية، لكن تأخر القضاء على القوات الإنكشارية إلى عام 1826م في عهد السلطان محمود الثاني، وقد انقطعت العلاقات العثمانية الفرنسية خلال غزو نابليون بونابرت لمصر بين عامي: 1798 و1801، فمصر أحد ولايات الدولة العثمانية، ثم عادت العلاقات لطبيعتها بعد اتفاق الصلح بين الطرفين عام 1801م.
كانت الثورة الفرنسية تسعى إلى نشر أفكارها الثورية في جهات العالم المختلفة، ومنها: الدولة العثمانية بولاياتها المتعددة، وقد ساهمت السفارة الفرنسية من خلال مطبعتها في إستانبول في طبع كتب ونشرات ووثائق باللغتين: الفرنسية والتركية موجَّهة للفرنسيين العاملين والمقيمين في الدولة العثمانية، وللدعاية بين العثمانيين أنفسهم وبين رعايا الدولة العثمانية من النصارى؛ خاصة في شرق أوروبا، الذين كانوا أكثر تقبلًا لهذه الأفكار الجديدة.
وقد ساهم الفرنسيون المقيمون في إستانبول بدورهم في نشر التغريب والأفكار الثورية الفرنسية من خلال إنشاء النوادي والجمعيات، وإقامة الاحتفالات العامة، وقد أدَّى ذلك -مع الوقت- إلى أن صار لفرنسا آثارًا واضحة على طبقة من العثمانيين، فكانت تلك مرحلة مهمة في التغريب والتأثر بأوروبا عامة وفرنسا خاصة، وقد انتهت تجربة السلطان سليم بمقتله عام 1808م، ولكن لم يعد من الممكن العودة إلى الوراء إذ واصل السلاطين من بعده ركوب موجات التغيير حتى عصفت بحكمهم في النهاية، فشهد القرن الثامن عشر زيادة مضطردة في إرسال السفراء العثمانيين إلى العواصم الأوروبية، منها سفارات متعددة إلى باريس، وبطرسبورج، ولندن، وفيينا، وبرلين، وكتب أغلب هؤلاء السفراء تقارير عن سفاراتهم إلى تلك العواصم، فلم تعد أوروبا أرضًا للاستكشاف، بل أصبحت معروفة لعددٍ كبيرٍ مِن الأتراك العثمانيين.
وقد أسهمت تقارير السفراء في تقديم صورة واقعية عن عواصم أوروبا ومدنها، وتكاملت الصورة قبل نهاية القرن الثامن عشر وصارت لدى الكثير من العثمانيين تفاصيل كثيرة عن الدول الأوروبية وحكوماتها، وحياتها العلمية والاجتماعية، ومدى قوتها العسكرية، وقد أبدى هؤلاء السفراء اهتمامًا محدودًا بالأفكار التي ظهرت في أوروبا وقتها.
وقد أثَّرت حركة الترجمة -غير المحسوبة- عن اللغة الفرنسية في الحركة الفكرية في تركيا، فأدمجت بعض المصطلحات والكلمات الأوروبية في اللغة التركية، وصارت للغة الفرنسية موقعًا راسخًا في الدولة، فتأسست أول جريدة في إستانبول باللغتين: التركية والفرنسية في عهد السلطان محمود الثاني الذي حكم الدولة حتى عام 1839م، بل كان السلطان عبد المجيد الذي حكم حتى عام 1861م يعرف اللغة الفرنسية.
ظهور مفاهيم جديدة:
كان التطور الأهم في تلك المرحلة هو إدخال بعض المعاني -وافقت أو خالف الشريعة- لمفاهيم لم تكن تتضمنها من قبل، فمن ذلك:
- مفهوم الوطن والأخوة:
كان مفهوم الأمة (أو الملة) يستخدم للتعبير عن مجموع المسلمين دون تمييز في العنصر أو اللغة، بينما استخدم مفهوم الدولة للتعبير عن الكيان السياسي الديني للمسلمين؛ أما كلمة الوطن فكانت تشير إلى مكان الولادة والنشأة.
أما مفهوم الأخوة فكان مرتبطًا بالولاء الديني، حيث إن في الإسلام كل المؤمنين إخوة، لكن تحول المفهوم إلى الولاء الوطني لا الديني، فلم يعرف إلا بعد تبلور المفهوم الغربي للوطن والدولة المدنية الحديثة القائمة على العلمانية والقومية، فصارت رابطة الوطن مقدمة على رابطة الدين بلا اعتبار للفوارق العقدية ولا للأحكام والشروط الشرعية في نظام الحكم، الذي أصبح بدوره ليس المرجع فيه للدين أو لا يستمد منه، وهذا مصادم لدين الإسلام، كما أن فيه معنى مذموما أيضًا، وهو العصبية الجاهلية للجنسية والقومية؛ أما المعنى الجائز للوطنية والانتماء للوطن فهو اقتضاء مزيد من النصح والحفاظ على مصالحه والدعوة إلى الله وإرادة الخير له في الدنيا والآخرة.
وهذا التغير في المفاهيم أثار كثيرًا مِن المخاوف لما يحمله هذا التغير من أهداف سياسية خطيرة على المفاهيم السائدة في الدولة العثمانية، وإن عَدَّها الكثيرون في بداية الأمر أنها تشير فقط إلى الأحداث الداخلية في فرنسا.
- مفهوم الثورة والإصلاح:
كان لمفهوم الثورة عند الأتراك دلالة سلبية؛ إذ تعني الثورة (الفتنة) لما فيها من تقاتل وفوضى؛ ولذا نظر الكتاب العثمانيون في بادئ الأمر إلى الثورة الفرنسية على أنها بلبلة واختلال، ثم عدوها انقلابًا، ولكن مع أواخر القرن الثامن عشر أصبح مفهوم التغيير الثوري الذي تروج له تجربة الثورة الفرنسية يشار إليه بالتغيير الإصلاحي، رغم أنها كانت ثورة على الانحراف الديني للكنيسة في أوروبا، لكنها امتدت لتكون ثورة على الدين ذاته، سواء الأديان المحرفة أو المنسوخة أو دين الله كما أنزل -دين الإسلام-، بالإضافة لعدم اعتبار المصالح والمفاسد والقدرة والعجز، وإهدار حرمة الدماء!
كما كان لكلمة الإصلاح عند المسلمين مدلول ديني، مداره على العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح، ثم صارت كلمة الإصلاح خلال القرن الثامن عشر تنصرف إلى نواحي سياسية واجتماعية تتعلق بالحياة السياسية، وإدارة البلاد والجيش والتعليم. رغم أنه لا تعارض في الأصل بين الرجوع لما كان عليه السلف في فهم الدين وقواعده، وبين الأخذ بأسباب القوة وتطوير نظم الإدارة، كما كان في حضارة المسلمين بالأندلس.
أما صرف معنى الإصلاح إلى قبول النظم الديمقراطية (بالفلسفة الغربية من جعل الحكم أصالة للشعب من دون الله) والتي تعطي حق التشريع ابتداء وانتهاء لغير الله، وكذلك تغريب مناهج التعليم، والنظرة للحياة، فهو إفساد وليس إصلاحا.
- أما مفهوم الحرية الذي أطلقته الثورة الفرنسية وجعلته من شعاراتها فلم يكن معروفًا بهذا الفهم الغربي؛ إذ كانت كلمة الحرية تطلق عند العرب في مقابلة العبودية، والحر نقيض العبد، كما يستخدم في الإشارة إلى الشرف والأصالة، فالحر هو الشريف ذو الأصل.
وقد استخدم الأتراك في معاهداتهم الكلمة التركية (سربستية) بمعنى انعدام الحدود والقيود، للإشارة إلى الحرية الجماعية السياسية؛ فلما تنبَّه السفراء والدبلوماسيون إلى مفهوم الحرية عند الفرنسيين استخدموها في تقاريرهم بأن رجال الثورة الفرنسية يعدون عوام الناس بالحرية والمساواة، أما المفهوم الواسع للحرية فتم استيعابه بالتدريج هو وباقي مفاهيم الثورة الفرنسية قرب نهاية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وصار لها قوة سياسية فاعلة.
ويجدر الإشارة إلى أن المفهوم الواسع للحرية الغربية يصادم الدين لأنه يعطي الحق في حرية الكفر والزندقة والطعن في الدين والتحلل من الشريعة.
- أما كلمة الجمهورية فقد استخدمها الكتاب العثمانيون بمفهومها الغربي؛ للإشارة إلى النظام السياسي في فرنسا، ومن إستانبول انتشر ذلك الفكر في سائر البلاد الإسلامية.
وبالجملة: فقد كانت مسيرة القرن الثامن عشر في تركيا داعمة للاتجاه الداعي إلى الانفتاح على أوروبا، مع وجود صراع حول المفاهيم التي ولدتها الثورة الفرنسية بين متحمس لها ومعارض أسفر عن وجود تحول وتأثر مذموم، تبلور سريعا مع بدايات القرن التاسع عشر، ثم تنامت الأفكار التغريبية فتحولت تركيا معها تحولا خطيرا خلال القرن التاسع عشر، وصولًا إلى عصر التنظيمات وإعلان الدستور ثم إعلان إسقاط السلطنة وإعلان الجمهورية العالمانية.