كتبه/ محمد سرحان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
ما زال الحديث موصولاً حول الكتاب القيِّم: "العدوان على العربية عدوان على الإسلام" تعريفاً به وبكاتبه -رحمه الله-.
يتحدث الكاتب في الفصول الثلاثة الأخيرة والملحق عن تفرُّدِ لغة القرآن وتميُّزِها، ويضرب أمثلة لذلك، ويُظهر قوةَ اللغة وصلاحَها لاستقبال أي جديد من العلم والتكنولوجيا والطب وغيرها من المصطلحات، وأنها لا تعجز عن مواكبة التقدم والتحضر، وتبين عجز اللغات الأخرى وإفلاسها أمام العربية، وفي الملحق الذي تعرض فيه للإجابة عن الأسئلة ذكر أمثلة على عدم قصور اللغة ونجاحها في اختبارات ثلاثة:
الأول: حين أنزل الله القرآن فنقلت اللغة العربية من لغة أمة أمية إلى لغة أمة ذات عقيدة وشريعة ونظم وثقافات.
والثاني: ترجمة ثقافات اليونان وفارس وغيرها من الأمم.
الثالث: تجربة جامعة دمشق.
ونحن نلخص لك ما جاء في هذه الفصول من نص كلام المؤلف، قال -رحمه الله-:
تفرد لغتنا وتميزها:
إن اللغة العربية أعجوبة الأعاجيب في وضعها المُحْكَم وبنائها الدقيق المنظم، فمن أُتيح له أن يستجلي غوامضها، ويقف على دقائقها، أيقن أن هذه اللغة الكريمة قد وضعت بإلهام الحكيم جلت قدرته وعلت كلمته، وليس على من أراد الوقوف على غنى لغة القرآن والاستيثاق من مبلغ قدرتها على التعبير عن شئون الحياة المختلفة إلا أن يقف على واحد من عشرات معاجم المعاني التي حفلت بها المكتبة العربية، وأن يتصفح فهارس هذه المعاجم، فإنه سيجد فيها من غنى المفردات، ووفرة الدلالات، ودقة التعبير، وبراعة التصور ما يُذهِل لبَّه.
وعلى سبيل المثال: فالعرب فصَّلت الكلام على الأموال وأنواعها، وجعلت لكل نوع اسم خاص به، فإذا كان المال موروثاً فهو تِلاد، فإذا كان مكتسباً فهو طارِف، فإذا كان مدفوناً فهو ركاز، فإذا كان ذهباً أو فضة فهو صامت، فإذا كان إبلاً وغنماً فهو ناطق، فإذا كان ضيعة ومستغلاً فهو عقار.
وغنى العربية هذا ليس وقفاً على شؤون الحياة المادية وحدها، وإنما هو متوافر في الشؤون المعنوية أيضاً؛ فالشجاعة لها عند العرب درجات، ولكل درجة لفظ خاص بها، والجود له مراتب، ولكل مرتبة كلمة تؤديها، والغضب له مراحل، ولكل مرحلة حرف يعرب عنها وهكذا...
ومن يقف على كتب فقه اللغة يجد لكل معنى يجول في ذهنه لفظاَ، ولكل سؤال يدور في خلده جواباً، وقد يقول فريق ممن في قلوبهم مرض إننا لا نماري في قدرة هذه اللغة على الوفاء بمطالب الإنسان المعاشية والنفسية، ولكن من أين لهذه اللغة أن تفي بحاجات عصر الذرة والفضاء؟!
وكذلك العلوم الحديثة مكتوبة بلغة أصحابها ومصطلحاتهم وليس في العربية هذه المصطلحات!!
ولهؤلاء نقول: ما إن عادت المركبة القمرية التي أطلقها الأمريكان إلى أُمِّها الأرض، وقبل أن تصحو البشرية من دهشتها وذهولها، كتب الأديب الدكتور/ أحمد ذكي في "مجلة العربي" بحثاً قيماً شيقاً مستفيضاً عن هذا الحدث، عبَّر فيه بلغة علمية عربية فصيحة عن حقائق هذه الرحلة ودقائقها تعبيراً يخيل معه للمرء أننا نحن الذين صنعنا مركبة الفضاء لا الأمريكان، وأننا نحن الذين صعدنا إلى القمر لا هم، وهو مقال يدل على براعة كاتبه من جهة، كما يدل على عبقرية لغة القرآن وقدرتها غير المحدودة من جهة أخرى.
واللغة العربية إلى هذا لغة ذات صيغ ثابتة النطق معلومة الدلالة، ثم هي تتمتع بخاصية الاشتقاق التي حرمت منها جل اللغات الحية، وهي خاصية جعلت من لغة الضاد لغة منطقية مما أدى إلى ضبط نظامها، واضطراد أحكامها، وإغناء مادتها، وجعلها لغة ولوداً على مر العصور. فمثلاً مادة "النشر" في اللغة العربية، نجد أن في وسعنا أن نولد منها اسم الفاعل ناشر، واسم المفعول منشور، واسم الآلة منشار، واسم المكان منشر، وهكذا...
بينما لا تستطيع أن تجد في اللغة الفرنسية مثلاً صلة بين الأخ وأخته؛ فالأخ في الفرنسية "frere" والأخت "soeur"، وهما كلمتان متنافرتان في النطق، متناكرتان في الصيغة، لا تمت إحداهما إلى الأخرى بسبب، وما يقال عن الفرنسية يقال أضعافاً مضاعفة عن الإنكليزية فهي لغة الفردية والشذوذ.
أما عن الشق الثاني من قولهم، فاعلم أن أمريكا أوفدت طبيباً خبيراً بالمخطوطات؛ ليزودها بما لدى المسلمين من علوم الطب، فيكشف أن في المكتبة الظاهرية وحدها مائة وعشرين كتاباً في الطب والصيدلة، وينقلها إلى قومه، ونحن لا نعرف عنها شيئاً، وهذه العلوم الطب والصيدلة وغيرها احتاجت إلى مصطلحات، وكلها وحدت مصطلحاتها في لغتنا حتى أصبحت المصطلحات تعد بالألوف، ووضعت لها كتب خاصة بها فيها كتاب "التعريفات للجرجاني"، و"كشاف اصطلاح الفنون" للتهانوي، ويقع في نحو ألفي صفحة كبيرة، و"كليات أبي البقاء" وغيرها.
والمرء حين يقف على المصطلحات العلمية العربية الموجودة في اللغات الأجنبية تأخذه الدهشة وانظر ذلك في مقدمة كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" للمستشرقة الألمانية "زيغرد هونكة".
ولم تعجز اللغة العربية يوم فتح العرب عيونهم على ثقافات اليونان والهنود وفارس، ولقد قامت تجربة ناجحة رائعة رائدة في هذا في جامعة "دمشق".
وفي دولة اليهود الرد الحاسم على هذه الدعاوى؛ فالجامعة العبرية في "تل أبيب"، والمعاهد العلمية، والكليات العلمية، والمدارس الثانوية جميعها تُعلم بالعبرية. تعلم كل شيء ابتداءً من الذرة والنظائر المشعة، وانتهاءً بأصغر ضرب من ضروب المعرفة، ولم يقل واحد من الأساتذة الذين جاءوا إلى الجامعة العبرية من كل صقع، وتلقوا ثقافاتهم بلغات مختلفة: إن العبرية لغة ميتة، وإن زمام الثقافة والعلم في يد الأقوام اللاتينية وغيرها فلنتعلم بلغاتها الأصلية.
وفوق ذلك فاللغة العربية هي التي أنزل الله بها كتابه، فهل تعجز عن بعض المصطلحات العلمية، ورحم الله حافظاً حين قال على لسان لغة القرآن:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
لغتنا ليست ملكاً لشعب بعينه:
إن هذه اللغة ليست ملكاً لشعب بعينه، وإنما هي تراث العرب والمسلمين جميعاً على اختلاف ديارهم وأقطارهم، وأنهم أسهموا جميعاً عبر تاريخهم الطويل في إقامة أركانه وإحكام بنيانه، وعملوا يداً واحدة خلال العواصف الهوج والمحن السود على صيانته من عبث العابثين، وحفظه من عدوان العادين.
وإن تراثاً هذا شأنه لا تستطيع أن تمتد إليه يد بالتحريف والتبديل، وأي تغيير في أسسه هو من حق شعوب الأمة العربية والإسلامية كلها يوم يجتمعون. وهم يوم يجتمعون ويتوحدون سيكونون أشد حرصاً على لغتهم من أي يوم سلف.