كتبه/ أحمد حسين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن التلفيق وتتبع الرخص في المذاهب، مِن الموضوعات التي تُثَار أحيانًا عندما يتبع الإنسان مذهبًا معينًا، ثم يجد في مذهب آخر حكمًا يناسبه فيحاول اللجوء إليه، أو الأخذ برأي أكثر من مذهب في مسألة معينة، والسائد بين العلماء أن التلفيق يجوز بأن يؤخذ برأي في مذهب مجتهد وبآخر في مذهب مجتهد آخر متى لم يكن هذا التلفيق خارقًا للإجماع، وهذا في حق مَن توفَّرت لديه مَلَكة الترجيح وجمع أدواته، أما العامي فمذهبه مذهب مفتيه؛ لأنه لا يملك آلة النظر والاستدلال كالعالم.
التلفيق في اللغة هو: ضم الأشياء والأمور، والملاءمة بينهما لتكون شيئًا واحدًا.
واصطلاحًا هو: من المصطلحات التي ظهرت لدى المتأخرين بعد أن استقرت المذاهب الفقهية وانتشرت، وشاع تقليدها في الأقطار والأمصار.
وتعريفه هو: الجمع بين المذاهب الفقهية المختلفة في أجزاء الحكم الواحد بكيفية لم يقل بها أيٌّ من تلك المذاهب.
ومن هنا يتبين: أن حقيقة التلفيق تؤول إلى أخذ المقلد بأكثر من مذهب فقهي في نفس الوقت، وفي نفس القضية بحيث يحصل مِن هذا المزج هيئة مركبة لم يقل بمجموعها أحد ممَّن قلَّدهم، وإنما قال بعضهم ببعض أجزائها، وقال غيرهم: ببعض آخر؛ إلى هنا فالأمر لا يخرج عن دائرة الاجتهاد ما لم يكن خارقًا لإجماع ثابت أو نص قاطع، وهناك عدة شروط لكي نقول بجواز التلفيق، وهي كالآتي:
الشرط الأول: ألا يترتب على التلفيق تركيب حكم يخالف الإجماع أو يخالف نصًّا قاطعًا في دلالته، وذلك كمَن قلَّد الإمام الشافعي في القول بأن النبيذ والخمر شيئان متساويان في الحكم، ثم قلَّد الإمام أبا حنيفة في أن النبيذ حلال، فلفق من هذين القولين حكمًا بأن الخمر حلال؛ لأن النبيذ حلال عند أبي حنيفة، وهما متساويان في الحكم عند الشافعي، فهذا التلفيق باطل مخالف للإجماع وللنصوص الصريحة القطعية التي تحرِّم الخمر.
الشرط الثاني: ألا يترتب على التلفيق ما يتعارض مع مقاصد الشريعة وطبيعتها، وذلك كمَن لفَّق في عقد النكاح وتزوج بلا شهود مقلدًا لمالك في عدم اشتراطهم، وبلا ولي للمرأة مقلدًا لأبي حنيفة، وبلا صداق مقلدًا للشافعي؛ فهذا التلفيق يتعارض مع مقاصد الشريعة؛ لما يترتب عليه من مفاسد: كتعريض الزوج والزوجة للتهمة، وضياع حق المرأة، وتسهيل الزنا، والتحايل بهذا التلفيق لدرء التهمة عن الزانيين.
الشرط الثالث: ألا يؤدي العمل بالتلفيق إلى نقض أحكام القضاء الإسلامي؛ لأن حكمَ القاضي يرفع الخلاف؛ درءًا للفوضى، ولو عمل بالتلفيق على خلافه لأدَّى ذلك إلى اضطراب القضاء، وعدم استقرار الأحكام القضائية.
الشرط الرابع: أن يعتقد رجحان ذلك القول الملفق، فيقدِّر أنه لو وجد أحد الأئمة المجتهدين واطلع على المسألة بمتغيراتها الجديدة أو الخاصة بهذا الشخص المقلد، لم يكن من البعيد أن يوافق مذهبه ما توصل إليه بالتلفيق، بل لا بد أن يكون هذا هو غالب ظن المقلد.
الشرط الخامس: أن يكون التلفيق على علمٍ ودرايةٍ بالحكم والواقع؛ لا بالهوى والتشهي.
أقسام التلفيق:
ينقسم التلفيق أقسامًا؛ وذلك باعتبار الشخص الملفق، أو باعتبار القضية الفقهية الملفقة.
فبالنظر إلى الشخص الملفق:
أولًا: إما أن يكون من أهل الاجتهاد أو أقله من طلاب العلم المميزين، ولا يخرج من دائرة الاجتهاد الجزئي؛ فهذا يُقبَل منه بالشروط السابقة ما دام ترجح عنده ذلك.
ثانيًا: تقسيم التلفيق باعتبار القضية الفقهية الملفقة:
القسم الأول: قضية فقهية ملفقة من مذاهب فقهية متعددة؛ كمَن حج فمكث في مزدلفة بمقدار حط رحله كما هو عند المالكية، وقلَّم أظفاره كما هو عند الظاهرية، ثم طاف راكبًا كما هو عند الشافعية، ورمى يوم النفر قبل الزوال كما هو عند الحنفية؛ فهذا الحج ملفق من مذاهب مختلفة، وكل مذهب لا يقول برأي المذهب الآخر في المسألة التي قلده فيها؛ فهذا أعدل الأقوال فيه تلفيق تشهٍّ؛ لتتبع رخص كل مذهب، فخرج عن مقصود الحج، وخلافًا لهديه وفعله -صلى الله وعليه وآله وسلم-، الآمر بأن نأخذ المناسك عنه، وإن اختلفنا في حكم حجه.
القسم الثاني: قضية فقهية ملفقة من مذهبين فقهيين؛ كمَن توضأ فمسح شعرة واحدة عند الشافعية، ومس امرأة أجنبية بدون شهوة بعدها مقلدًا للمالكية؛ فهذا وضوؤه لم يصح عند المالكية، منقوض عند الشافعية.
القسم الثالث: قضية فقهية ملفقة من رأيين فقهيين في المذهب الواحد؛ كمَن وقف الدراهم كما هو عند زفر، وكان وقفه على نفسه كما هو عند أبي يوسف؛ فهذا الوقف ملفق من قولين في مذهبٍ واحدٍ، وهو باطل عند الإمامين؛ فأبو يوسف لا يرى وقف الدراهم، وزفر لا يرى الوقف على النفس.
واختلف العلماء في حكم إلزام المسلم بمذهب معين، وعدم الخروج منه على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجب التمذهب، ولا يجوز الخروج من المذهب. القول الثاني: لا يجب التمذهب، ولا يجوز الخروج مِن المذهب لمَن التزم مذهبًا. القول الثالث: لا يجب التمذهب، ويجوز الخروج مِن المذهب لمَن التزم مذهبًا.
والراجح هو القول الثالث؛ وذلك لأنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحدٍ مِن الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دون غيره، ولم يرد عن الصحابة أنهم أوجبوا على العوام تعيين المجتهدين، ووجوب الاقتصار على مفتٍ واحدٍ دون غيره، وإن كنت أرى التمذهب بضوابطه الشرعية والبعد عن التعصب الذي يذم في المذهبية كما يذم في غيرها، فكثير ممَّن لا ناقة لهم ولا جمل في طلب العلم ينهى عن تقليد الشافعي أو أحمد؛ بحجة أنهم ليسا بمعصومين، ويلزمك بتقليد مَن دونهم في العلم والفضل، ويعد الحق في قول شيخه فقط، وكأن شيخه صار معصومًا! كمَن يعيب عليك الخروج عن المذهب ومعتمده باسم التمسك بتواتر المذهب، ووجاهة مَن قال به، ويرمي مخالفه بالسطحية وأنه لم يشتم رائحة الفقه!
ولو دقق النظر: لوجد إمام المذهب -أعني النووي في مجموعه- في أكثر من مسألة يخالف المعتمد الذي قرره قبلها بورقات، ويقول: "وهذا أرجح من جهة الدليل"، كقوله -رحمه الله- بنقض الوضوء بأكل لحم الإبل، ناهيك عمَّا يخرج عن كل هذا تشهيًا طمعًا في دنيا أو خوفًا من مذمة الدهماء كمَن يقول بطهارة الكلب وجواز بيعه واقتنائه دون حاجة نصَّت عليها الشريعة مخالفًا لمذهبه، وهو أشد المذاهب في هذا الباب؛ طلبًا لنسبة المشاهدة أو وجاهة أصحاب تربية الكلاب، وإلى الله المشتكى، ونعوذ بالله من الخذلان، ونسأله التوفيق والسداد.