كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد تسببت إعادة الجريدة الفرنسية (شارلي إبدو) لنشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في نوبة غضب واحتجاجات عارمة من المسلمين في كافة أنحاء العالم شرقًا وغربًا، وتسببت التصريحات غير المسؤولة للرئيس الفرنسي (ماكرون) -دفاعًا عن الجريدة وتهجمًا على الإسلام والمسلمين- في زيادة حدة هذا الغضب وهذه الاحتجاجات، ولم يجد المسلمون في ظل تقاعس حكامهم وحكوماتهم أبلغ من الدعوة إلى المقاطعة الشعبية للمنتجات الفرنسية في شتى أنحاء العالم، وهي الدعوة التي لاقت استجابة وقبولًا لدى قطاعات كبيرة من المسلمين، وظهر أثرها سريعًا على شركات فرنسية كبرى في غضون أيام لم تتجاوز الأسبوعين.
وقد شهدت فرنسا في هذه الفترة بعض حوادث اعتداء مِن بعض المسلمين المغالين الغاضبين الذين يعيشون فرنسا -والذين لا يمثِّلون بالطبع عموم المسلمين في أوروبا-؛ تمثَّلت في مهاجمة مقر جريدة (شارلي إبدو) القديم وطعن شخصين أصيبا بجروح بليغة، كما قُتل مدرس فرنسي عَرَض على تلاميذه -وفيهم مسلمون- رسومًا مسيئة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، كما وقع اعتداء على كنيسة (نوتردام) قُتل فيه ثلاثة فرنسيين بينهم امرأة، وهي بالطبع أفعال تضر أكثر مما تفيد؛ إذ تثير غضب الفرنسيين والأوربيين تجاه المسلمين عامة وفي أوروبا خاصة؛ أفعال مِن قلة غالت بسبب قوة حماستها وعاطفتها في ردِّ فعلها كما غالى -ويغالي- أيضًا بعض المتطرفين اليمينيين الفرنسيين في تعرضهم للمسلمين هناك، حيث شهدت هذه الفترة مقتل فتاتين مسلمتين محجبتين من أصل جزائري.
ونظرًا للاستجابة للدعوة إلى المقاطعة الشعبية للمنتجات الفرنسية -والتي أثَّرت بالسلب على شركات فرنسية كبرى في غضون أيام لم تتعدَ الأسبوعين-؛ جاء تراجع "ماكرون" والخارجية الفرنسية عما بدر في صورة اعتذار مغلف بأن تصريحات الرئيس الفرنسي أُسيء فهمها، وهو ما حاول ماكرون إظهاره من خلال لقاء عقده مع قناة الجزيرة في قصر (الإليزية) في فرنسا، وأعقبه بإرسال وزير خارجية فرنسا في جولة تشمل مصر وبعض الدول العربية والإسلامية لتدارك الموقف.
وقفة شجاعة لشيخ الأزهر:
كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار إلى الأزهر الشريف أكبر مؤسسة دينية إسلامية في العالم بتاريخها الطويل، وكان على شيخ الأزهر أن يعرب عن موقفه وموقف مؤسسته من هذا الأمر الذي يسيء إلى الإسلام وإلى نبي الإسلام، ويثير حفيظة المسلمين؛ خاصة مع استنكار مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر لتصريحات ماكرون، فجاء رد شيخ الأزهر قويًّا وعلى قدر المسئولية الملقاة على عاتقه من بداية الأحداث، في موقف يتسم بالاتزان والحسم، ويملؤه الغيرة على الدِّين الإسلامي وعلى نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهو موقف يضاف إلى مواقف شجاعة أخرى لشيخ الأزهر سابقة في الدفاع عن ثوابت في الدين الإسلامي وأحكامه.
لقد جاء موقف شيخ الأزهر ليضعه في موضع قيادة الأمة في مواجهة مَن يحاول المساس بدينها ونبيها، ويحفز المسلمين كافة على الاعتزاز بدينهم ونبيهم، والتصدي لصلف الغرب وغروره، والذي ظن أن الساحة خالية له للانتقاص من الإسلام والمسلمين.
شيخ الأزهر أحمد الطيب:
هو أحمد محمد أحمد الطيب، من صعيد مصر، وُلِد في 3 صفر 1365 هـ، الموافق 6 يناير 1946م، أي: يبلغ من العمر حاليا 74 عامًا بالتقويم الميلادي، و76 عامًا بالتقويم الهجري.
وُلِد في منطقة (دشنا) بمحافظة قنا، درس في الأزهر، وحصل على درجة الليسانس في العقيدة والفلسفة من كلية أصول الدين بالقاهرة عام 1969 م، ثم حصل على درجة الماجستير عام 1971م، ثم درجة حصل على درجة الدكتوراة عام 1977م، ودرس الفلسفة في جامعة (السربون) في فرنسا، وتدرج في المناصب حتى تولى منصب الإفتاء في مصر، ثم عينه شيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي -وكان صديقًا مقربًا منه- رئيسًا لجامعة الأزهر. وبعد وفاة شيخ الأزهر سيد طنطاوي تم تعيين الطيب شيخًا للأزهر خلفًا له، وذلك في 19 مارس 2010 م، وهو الشيخ رقم 48 للأزهر.
في مشوار حياته عمل في كلٍّ من جامعة الإمام محمد بن سعود بالمملكة العربية السعودية، وفي جامعة قطر، وفي جامعة الإمارات، وفي الجامعة الإسلامية العالمية بباكستان. وهو أستاذ جامعي في العقيدة الإسلامية، وهو باحث أكاديمي متخصص، له مؤلفات وبحوث علمية جادة، وهو أشعري المذهب في العقيدة ومالكي المذهب في الفقه، ويتحدث الفرنسية والإنجليزية بطلاقة، وقام بترجمة عدة مراجع فرنسية إلى اللغة العربية، كما عمل محاضِرًا جامعيًّا في فرنسا، وأسلم على يديه أفراد الأسرة التي كان يقيم لديهم خلال دراسته في باريس. عرف بالاتزان والحكمة ودعواته المتكررة إلى نبذ الفرقة والعنف، والاحتكام إلى العقل، مع الحرص على حفظ هوية المجتمع وتماسكه، وهو رئيس مجلس حكماء المسلمين.
وهو مقيم مع أسرته في قرية (القرنة) بالأقصر، لكنه يعيش في القاهرة منفردًا لظروف عمله بمشيخة الأزهر، مع حرصه الدائم على الجمع بين عمله بالقاهرة والتردد على أسرته وأهله ومحبيه في مسقط رأسه ومراعاتهم. وله اثنان من الأولاد: محمود وهو مهندس، وزينب. وقد طلب مع تولي مشيخة الأزهر العمل بلا أجر، حيث تخلى عن راتبه منذ تولى مشيخة الأزهر دعمًا للاقتصاد المصري بعد ثورة يناير، فهو بذلك يعمل في خدمة الإسلام والمسلمين بلا أجر محتسبًا أجره عند الله -تعالى-. (انظر في ذلك موسوعة (ويكيبديا) على الشبكة العنكبوتية).
موقفه من تصريحات الرئيس الفرنسي:
اعترض شيخ الأزهر مبكرًا على تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون التي دافع فيها عن الجريدة الفرنسية التي أساءت للنبي -صلى الله عليه وسلم-، معتبرها تصريحات تسيء بشدة للإسلام، ولنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وتثير مشاعر المسلمين في كل مكان وتستفزهم، وتحض على الحقد والكراهية، وأن لها غطاءً سياسيًّا لأغراض انتخابية تتستر خلفها. وفي تغريدة له على موقع التدوينات القصيرة (تويتر) كتب شيخ الأزهر باللغة الفرنسية يقول: (بينما نسعى نحن والعقلاء في الغرب إلى تعزيز قِيَم المواطنة والتعايش، يتم الإدلاء بتصريحات غير مسؤولة، معتبرين الهجوم على الإسلام غطاءً لتحقيق مكاسب سياسية واهية!) (راجع جريدة الفتح – العدد 455 – 22 صفر 1442 هـ 9 أكتوبر 2020م).
وفي الاحتفال بمناسبة المولد النبوي الشريف استنكر شيخ الأزهر من جديد تصريحات الرئيس الفرنسي قائلًا: (إننا نشهد الآن حملة ممنهجة للزج بالإسلام في المعارك السياسية وصناعة فوضى، بدأت بهجمة مغرضة على نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-، لا نقبل أن تكون رموزنا ومقدساتنا ضحية مضاربة رخيصة في سوق السياسات والصراعات الانتخابية).
وأضاف في تغريدة له على حسابه الشخصي على موقع (فيس بوك): (أقول لمن يريد الإساءة لنبي الإسلام إن الأزمة الحقيقية هي بسبب ازدواجيتكم الفكرية واجنداتكم الضيقة، واذكركم أن المسئولية الأهم للقادة هي صون السلم الأهلي وحفظ الأمن المجتمعي واحترام الدين وحماية الشعوب من الوقوع في الفتنة لا تأجيج الصراع باسم حرية التعبير) (راجع جريدة الفتح الأسبوعية - العدد 458 – الجمعة 13 ربيع الأول 1442 هـ - 30 أكتوبر 2020 م).
وجاء في كلمة شيخ الأزهر في احتفال رسمي بمناسبة المولد النبوي الشريف: (لكن من المؤسف أشد الأسف، ومن المؤلم غاية الألم أيضًا: أن نرى الإساءة للإسلام والمسلمين في عالمنا اليوم وقد أصبحت أداة لحشد الأصوات والمضاربة بها في أسواق الانتخابات، وهذه الرسوم المسيئة لنبينا العظيم والتي تتبناها بعض الصحف والمجلات، بل بعض السياسات هي عبث وتهريج وانفلات من كل قيود المسؤولية والالتزام الخلقي والعرف الدولي والقانون العام، وهو عداء صريح لهذا الدين الحنيف ولنبيه الذي بعثه الله رحمة للعالمين).
دعوته إلى تشريع عالمي يمنع معاداة المسلمين:
وجاء في كلمة شيخ الأزهر: (وإننا ومن موقع الأزهر الشريف إذ نرفض مع كل دول العالم الإسلامي وبقوة هذه البذاءات التي لا تسيء في الحقيقة إلى المسلمين ونبي المسلمين بقدر ما تسيء إلى هؤلاء الذين يجهلون عظمة هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، نحن إذ نفعل ذلك فإننا ندعو المجتمع الدولي لإقرار تشريع عالمي يجرم معاداة المسلمين والتفرقة بينهم وبين غيرهم في الحقوق والواجبات والاحترام الكامل المتبادل. كما إننا ندعو المواطنين المسلمين في الدول الغربية إلى الاندماج الواعي في هذه المجتمعات، والذي يحفظ عليهم هوياتهم الدينية والثقافية، ويحول دون انجرارهم وراء استفزازات اليمين المتطرف والعنصرية الكريهة واستقطابات جماعات الإسلام السياسي. وعلى المسلمين المواطنين أن يتقيدوا بالتزام الطرق السلمية والقانونية والعقلانية في مقاومة خطاب الكراهية، وفي الحصول على حقوقهم المشروعة اقتداء بأخلاق النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-).
وأضاف: (هذا وإني لأعجب العجب كله أن توقد نار الفتنة والكراهية والإساءة في أقطار طالما تغنت بأنها مهد الثقافة وحاضنة الحضارة والتنوير والعلم والحداثة وحقوق الإنسان، ثم تضطرب في يديها المعايير اضطرابًا واسعًا حتى بتنا نراها وهي تمسك بإحدى يديها مشكاة الحرية وحقوق الإنسان، بينما تمسك باليد الأخرى دعوة الكراهية ومشاعل النيران!).
دعوته إلى تعريف العالم بقدر النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكانته:
وجاء في كلمة شيخ الأزهر دعوة إلى تعريف العالم أجمع بقدر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ودوره وإسهاماته ومكانته العالية، وصفاته وأخلاقه الكريمة، حيث قال: (و في الختام: ومِن وحي هذه الذكرى العطرة يشرفني غاية الشرف أن أعلن عن إطلاق الأزهر الشريف منصة عالمية للتعريف بنبي الرحمة ورسول الإنسانية -صلى الله عليه وسلم-، يقوم على تشغيلها مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، وبالعديد من لغات العالم، وكذلك تخصيص مسابقة عالمية عن أخلاق محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإسهاماته التاريخية الكبرى في مسيرة الحب والخير والسلام).
سعي وزير خارجية فرنسا للقاء شيخ الأزهر:
في محاولة لتدارك الموقف وتقديم تبرير مقبول تهدئة للأمور، أرسلت فرنسا وزير خارجيتها (جان إيف لودريان) في جولة تضم مصر وبعض الدول العربية والإسلامية، حيث قَدِم إلى مصر في يوم الأحد 27 ربيع أول 1442 هـ الموافق 8 نوفمبر 2020م، حيث طلب بعد لقائه مع الرئيس المصري زيارة ومقابلة الإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر، وهي زيارة تدل وتؤكد -في هذا التوقيت- على مكانة الأزهر العالمية وعلى قوة تأثيره في نفوس الشعوب العربية الإسلامية؛ لذا كان لزامًا أن تبدأ الجولة من مصر والأزهر لتؤتي ثمارها المرجوة، فقبول شيخ الأزهر لأي تبريرات من فرنسا أو اعتذار، له أثر كبير في تهدئة الأمور لمصلحة فرنسا، ولكن تأتي الرياح أحيانًا بما لا تشتهيه السفن؛ فقد جاءت ردود شيخ الأزهر القوية في وجه وزير الخارجية الفرنسي تأييدًا ودعمًا لردود أفعال المسلمين الغاضبة، وتأكيدًا على الإنكار الشديد لما تنتهجه فرنسا تجاه الإسلام والمسلمين، وبيانًا لما يجب أن يكون عليه العالم دفاعًا عن الإسلام وعن نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
فقد تم اللقاء، ولكن لقن فيه شيخ الأزهر الرئيس الفرنسي درسًا لن ينساه في ضرورة احترام دين الإسلام ومكانة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك من خلال رسائل أرسلها أثناء حديثه مع وزير خارجية فرنسا.
وقد أكَّد وزير الخارجية في بداية زيارته احترام فرنسا لجميع الأديان، وأعرب عن تطلعه لتعزيز التعاون والتشاور مع مصر والأزهر لمكافحة ظاهرة الفكر المتطرف، ومما يذكر هنا: أن لوزير خارجية فرنسا علاقة قوية مع شيخ الأزهر فقد سبق والتقى بشيخ الأزهر في مصر 4 مرات، كما استقبله مرتين في باريس.
ومعلوم أن شيخ الأزهر يعرف فرنسا جيدًا؛ لكونه درس فيها وعاش لفترة، ومع ذلك (لم يستمر اللقاء أكثر من 20 دقيقة، حيث استقبل شيخ الأزهر وزير الخارجية على باب مكتبه ومعه عدد من قيادات الأزهر واستمع الإمام الأكبر لوجهة نظر وزير الخارجية الفرنسي في البداية، ثم أعلن رفضه لما صدر عن الجانب الفرنسي بشكل كان واضحًا وجليًّا، وسط فتور الاستقبال وتعبيرات وجه تشير بوضوح لغضب الإمام الأكبر، وكان أثر موقف الطيب واضحًا على الوزير الفرنسي) (راجع جريدة الفجر عدد الخميس 12 نوفمبر 2020 م: ص 7).
رسائل شيخ الأزهر لفرنسا والأوروبيين:
أكَّد شيخ الأزهر في لقائه مع وزير خارجية فرنسا أن المسلمين حول العالم حكامًا ومحكومين رافضون للإرهاب الذي يتصرف باسم الدِّين، وأنهم يؤكدون على براءة الإسلام ونبيه من أي إرهاب.
وأضاف: (إن الأزهر يمثِّل صوت ما يقرب من ملياري مسلم، وقلت: إن الإرهابيين لا يمثلوننا، ولسنا مسئولين عن أفعالهم، واعلنت ذلك في المحافل الدولية كافة؛ في باريس، ولندن، وجنيف، والولايات المتحدة، وروما، ودول آسيا، وفي كل مكان، وحينما نقول ذلك لا نقوله اعتذارًا؛ فالإسلام لا يحتاج إلى اعتذاراتٍ).
وأوضح شيخ الأزهر قائلًا: (وددنا لو أن يكون المسئولون في أوروبا على وعي بأن ما يحدث لا يمثِّل الإسلام والمسلمين؛ خاصة أن مَن يدفع ثمن هذا الإرهاب هم المسلمون أكثر من غيرهم).
وأضاف: (أنا وهذه العمامة الأزهرية حملنا الورود في ساحة (باتاكلان) وأعلنا رفضنا لأي إرهاب).
وقال شيخ الأزهر أيضًا لوزير خارجية فرنسا: (حين يكون الحديث عن الإسلام ونبيه -صلى الله عليه وسلم- فأنا لا أجيد التحدث بالدبلوماسية، وسأكون دائمًا أول مَن يحتج ضد أي إساءة إلى ديننا ونبينا، وأنا أتعجب حينما نسمع تصريحات مسيئة مثل التي سمعناها؛ لأن هذه التصريحات تسيء إلى فرنسا، وتبني جدارًا من الكراهية بينها وبين الشعوب العربية والإسلامية. وهذه التصريحات يستغلها المتطرفون في القيام بأعمال إرهابية، والمسئولون هنا يتحملون جانبًا من المسؤولية؛ لأن واجب الحكومات أن تمنع الجرائم قبل حدوثها، فحينما تسيء صحيفة إلى نحو ملياري مسلم؛ فهذه ليست حرية تعبير، بل هذه جريمة تجرح مشاعر المسلمين وكل المعتدلين، وتضر بمصالح فرنسا نفسها لدى الدول العربية والإسلامية).
وأضاف قائلًا: (صدري واسع للحديث في أي شيء، لكن الإساءة لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- مرفوضة تمامًا، وإذا كنتم تعتبرون الإساءة لنبينا حرية تعبير؛ فنحن نرفض هذه الحرية شكلًا ومضمونًا، وسوف نتتبع الذي يسيء إلى نبينا في المحاكم الدولية، حتى لو أمضينا عمرنا كله في الدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ هذا الرسول الكريم الذي جاء رحمة للعالمين، وأطالب دول الحقوق والحريات أن تتخذ خطوات حقيقة ملموسة لوقف أي تصريحات تربط الإرهاب بالإسلام، وتقول: (الإسلامي) أو (الإسلاموي)؛ فهذه المصطلحات جميعها تجرح مشاعر المسلمين).
(وأشار فضيلته إلى أن الإرهاب صنيعة دولية، والعالم العربي هو المسرح الذي تنفذ عليه جرائم الإرهاب، وقال: إنه شخصيًا يتعجب من عجز هذا العالم الذي يتباهى بتقدمه وقوته عن مطاردة هؤلاء الإرهابيين؛ فلو أن هناك رغبة جادة للقضاء على الإرهاب لقضوا عليه، وأنه يطن أن الإرهاب بندقية بالإيجار تلعب بها الدول وتتناقلها، والضحية هنا هم المسلمون والعرب، (ونقول للجميع: إننا مستعدون للتعاون من أجل القضاء على التطرف والإرهاب، ولن ندخر في سبيل ذلك جهدًا)، معربًا عن استعداد الأزهر للتعاون مع فرنسا وعلى نفقة الأزهر لتصحيح المفاهيم المغلوطة والتشدد داخل فرنسا، ولا نريد مقابل ذلك أي ثناء أو شكر؛ لأننا نعمل من أجل السلام الذي هو رسالة الإسلام، وعلى استعداد لتقديم منصة خاصة للحوار ونشر الوسطية والاعتدال والتعاون باللغة الفرنسية، ونتعاون مثلما تعاونا مع الفاتيكان ومجلس الكنائس والمؤسسات الدينية الكبرى حول العالم، وقد كانت وثيقة الأخوة الإنسانية خير شاهد على هذا التعاون، والتي لو قرأها المسؤولون وأمعنوا النظر بها لتجنب العالم مشكلاته) (راجع جريدة (صوت الأزهر) عدد 25 ربيع الأول 1442هجريا الموافق 11 نوفمبر 2020م، ص 3 بتصرف).
تأكيده على وجوب محبة الرسول والدفاع عنه بكل ما نملك:
وقد أكَّد الدكتور الطيب وجوب محبة كل مسلم للنبي -صلى الله عليه وسلم- والدفاع عنه بقدر ما يستطيع، حيث قال: (يتوجب علينا تجديد مشاعر الحب والولاء والدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأرواحنا، وبكل ما نملك من غالٍ ونفيسٍ؛ فمحبته -صلى الله عليه وسلم- فرض عين على كل مسلم) (راجع جريدة الفجر عدد الخميس 12 نوفمبر 2020 م، ص 7).
تعقيب وزير خارجية فرنسا على اللقاء:
(عقب اللقاء خرج وزير الخارجية الفرنسي (لودريان) في مؤتمر صحفي لوسائل الإعلام العربية والعالمية من قلب مشيخة الأزهر، واستمر لمدة 4 دقائق، شرح فيه الموقف الفرنسي في رسالة اعتذار واضحة للعالم العربي والإسلامي من قلب مشيخة الأزهر، وقد حرص الإمام الأكبر على ألا يكون موجودًا في المؤتمر؛ لتكون رسالة واضحة لا لبس فيها، ولا دخل للأزهر) (راجع المصدر السابق).
ويُلاحَظ: أن شيخ الأزهر لم يتعرض لأمر المقاطعة للمنتجات الفرنسية بالموافقة عليها أو بالاعتراض، ولم يشر إليها، ولعل ذلك لأنها قد تمت بالفعل، ولاقت استجابة واضحة، وأحدثت أثرًا إيجابيًّا، فجعل همه في توجيه المسلمين لأمور أخرى يمكن أن يتخذوها نصرة للإسلام ونبي الإسلام، من تعريف الغرب بحقيقة الإسلام، وبيان مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- العالية، ومن ملاحقة المسيئين للإسلام ونبيه -عليه الصلاة والسلام-، والدعوة إلى محاكمتهم محاكمة دولية، والدعوة إلى إصدار تشريع يجرِّم الإساءة للإسلام ونبي الإسلام، وغير ذلك مما تضمنته رسالاته الواضحة.
هل تجدي الملاحقة القانونية؟
كتب الصحفي سليمان جودة في عاموده (خط أحمر) بجريدة (صوت الأزهر) يقول: (في عام 2009 م كانت كاتبة نمساوية قد قالت في ندوةٍ ما يسيء إلى نبي الإسلام -عليه الصلاة والسلام-، وما كادت تفعل ذلك حتى كانت جمعيات إسلامية نمساوية قد ذهبت تشكوها إلى محكمة محلية من محاكم النمسا، وحين نظرت المحكمة في الأوراق التي قدَّمتها الجمعيات لم تستغرق وقتًا لتقضي في 2011م بإدانة الكاتبة التي ذهبت إلى الاستئناف فأدانتها أيضًا. والواضح في مرحلة ما بعد صدور الحكم أن الكاتبة المتهمة، بل والمدانة، لم تقتنع بما صدر في حقها من إدانة من محاكم النمسا، فراحت تنقل قضيتها من بلادها إلى فرنسا، وبالتحديد إلى مدينة (ستراسبورج) حيث تقع المحمة الأوروبية لحقوق الإنسان. ولم يكن أمام المحكمة الأوروبية خيار سوى النظر في القضية من جديد، رغم أن المحكمة النمساوية نظرتها وقضت فيها، فمحكمة ستراسبورج أعم من المحمة النمساوية؛ لأنها -أقصد المحكمة الأوروبية- تختص بالنظر في قضايا على مستوى الاتحاد الأوروبي كله، لا على مستوى دولة واحدة من الدول الأعضاء. ولا نعرف لماذا توقعت الكاتبة المسيئة أن تقضي المحكمة الأوروبية لصالحها، ولا نعرف كذلك كيف تصورت أن القاضي في ستراسبورج سوف يتطلع إلى قضيتها من خلال عين تختلف عن العين التي نظر بها القاضي في فيينا إلى القضية نفسها.
وما حدث أن المحكمة في ستراسبورج قضت بإدانة الكاتبة، ورأت أن الإساءة إلى معتقدات الآخرين ليست من حرية التعبير في شيء، وأنها ترفض الإساءة إلى مقدسات الآخرين تحت مبرر حرية التعبير! فمثل هذه الإساءة ليست من حرية التعبير في شيء على حدِّ قول المحكمة في ستراسبورج.
لقد صدر هذا الحكم في الخامس والعشرين من أكتوبر 2018 م، ولو استحضره الفرنسيون في غمرة الصخب الذي دار مؤخرًا لكانوا قد أراحوا واستراحوا، ولكانوا قد أدركوا أن حرية التعبير لها حدود تتوقف عندها) (راجع جريدة (صوت الأزهر) عدد الأربعاء 25 ربيع الأول 1442 هـ، الموافق 11 نوفمبر 2020م، الصفحة الثانية).
وبعد فإن انتفاضة شيخ الأزهر القوية دفاعًا عن الإسلام وعن نبيه -صلى الله عليه وسلم- تحيي من جديد في الأمة دور العلماء والمسئولين الواجب في قيادة الأمة نحو التمسك بدينها والدفاع عنه، ومحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه والدفاع عنه وعن سنته؛ إذ إن في تقاعس العلماء والمسؤولين ضياع الدين واضطراب أحوال العباد.
قال الغزالي -رحمه الله- يشتكي من حال المتقاعسين من العلماء: (وأما الآن فقد قَيَّدت الأطماع ألسنة العلماء فسكتوا، وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا، ففساد الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، باستيلاء حب المال والجاه، ومَن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل؛ فكيف على الملوك زالأكابر؟!) (إحياء علوم الدِّين).
فما أحوجنا في حياتنا اليوم أن يصدع علماؤنا وأولي الأمر منا بالحق دفاعًا عن ديننا الإسلامي، ونبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وشريعة الإسلام الغَرَّاء.