كتبه/ نور الدين عيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن مما لا يخفى على مسلم ما آل إليه أمر أمتنا، وما عظم واشتدت به معالم غربتنا، حتى انقلبت الحقائق لأوهام، والأدلة لشبهات، وصار المستقر مضطربًا، والقطعي محل نظر، وتبدل الحال من التسديد للخذلان، وسبب هذا منصوص عليه، محذر منه، فما مِن خير إلا ودلنا عليه -صلى الله عليه وسلم-، وما مِن شر إلا وحذرنا منه -صلى الله عليه وسلم-، ثم بيَّن التفصيل لسبيل الخير والشر، حتى أظهر معالمه وحدوده، قال عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ... ) (رواه مسلم).
وهذا الحديث بيان حالٍ شافٍ ليس بعده بيان، وإن من أعظم الإشارة في الحديث: وظيفة الأنبياء وورثتهم: البيان بالدلالة على الخير، والتحذير من الشر.
إن الجيل الأول هو المرتضى والنموذج الأمثل الذي يستدفع الفتن ولا تستقر فيه؛ بسلامة منهجه ومعتقده، والخلوف والمتأخرون سيدركون فتنًا مستقرة فيهم؛ بسبب تخلفهم عما كان عليه الأُول.
- ففضيلة السلف متضافرة متواترة، قد تكاثرت بها النصوص: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) (البقرة:137)، (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (متفق عليه)، وهذه الإشارة تغني مع كثرة الأدلة، والمقصد أن تزكية الله لهم لا بد أن تكون محل اعتقاد، الذي يتركب من قول وعمل واعتقاد، فلا يكفي ثناء اللسان واعتقاد القلب مع تخلف الامتثال، فكيف تصح نسبتنا إليهم وقد تركنا هديهم وسبيلهم؟!
فمنهجهم في العقيدة والعبادة والسلوك ملزم لكل مسلم، فلا سبيل إلى هذا إلا بعلم تفاصيل منهجهم، أما استبدال الآثار بالآراء، والأدلة بالأهواء، والعبادة بالجدال؛ فهذا سبب ما نحن فيه، وما يحل بنا من مواطن التباس الحق بالباطل، ومظاهر الضلال والانحراف، حتى إنك ترى جماعات بذلت أعمارًا وأموالًا ومهجًا في بدع مضلة، يظنون بها نصرة الدين، وبعضهم إذا طرح عليه صنيع الصحابة -رضي الله عنهم- في موقف أو مواقف ضاق صدره، بل وتفوه بالمهلك والطعن.
وأُخر نبذوا نصوص الصحابة ولم يعتبروهم؛ تعصبًا وتقليدًا، وأخر تنسكوا رقصًا واختلاطًا ومجونًا باسم الذكر، ولو عرضوا على جيل الصحب والتابعين ما نُسبوا إلا إلى الفسوق أو الجنون، فتدمع عينك وأنت ترى هذه الضلالات هي محل الدعوى، ومبتغى الساسة من المكرة.
فمَن يجهد اليوم ليعيد للسنة هيبتها، ويرد الجموع لعزها ومكانتها؟!
هذه باتت أشرف أنواع الجهاد، وأعظم الثغور.
فابذلوا في البيان والدلالة تجدون جزاءً مرضيًا غدًا، ولا تستبدلوا النعيم المقيم بسراب الرضا المضطرب من الخلائق، والمضمونات من الأرزاق، وبيان العلم المحمود وماهيته، وفضيلته -هذا نفصِّله في مقالٍ قادمٍ بإذن الله-.
والله أسأل أن يستعملنا لنصرة دينه، والثبات على طاعته.
والحمد لله رب العالمين.