كتبه/ الشحات البقوشي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمنذ أن نزل القرآن الكريم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، اتخذ النبي كتَّابًا للوحي يدونون القرآن الكريم، فكان أول نص يخط في الإسلام، ثم كتب بعض أصحاب النبي أحاديثه، وكان فيه نهيٌ في البداية خشية أن تختلط نصوص الوحيين، ثم أجاز النبي بالكتابة لمَّا أمن مِن وقوع هذا الخلط.
ثم أمر عمر بن عبد العزيز بعض المحدثين بتدوين السُّنة، وسعى طلاب العلم لسماع مجالس الحديث وتدوينها، وكذلك الفقهاء يدونون مسائلهم ويملونها على التلاميذ، ثم انتشر التصنيف والتدوين في بقية الفنون من اللغة والأصول والتفسير وغيرها.
فكانت الحاجة ماسة عندئذٍ لظهور بعض الحرف المساعدة لانتشار الكتابة والتدوين، فظهرت حرفة الوراقة، وحرفة النساخة، فقد مرَّ الوعاء الحافظ للكتابة العربية بمراحل بدأت مِن الجلود والجريد، وأكتاف الإبل، والحجارة البيض، مرورًا بالكاغد الخرساني الذي يصنع مِن الكتان، ثم الورق الصيني الذي يصنع من الحشائش، بالإضافة للبرديات التي كانت معروفة في مصر، وظهرت هذه الصنعة في مدن الإسلام الكبرى حيث يوجد العلماء المصنفون وطلبة العلم الذين يحتاجون للورق والكتابة، وارتبط بصناعة الورق صناعة الأحبار وصناعة التجليد.
وظهر كذلك الناسخون الذين كانوا من أصحاب الخط الحسن المقروء مع سرعة الكتابة، وكانت لهم أسواق يقصدها مَن يريد كتابًا ينسخونه له، وكان خلفاء العباسيين (كالمأمون) يأتون بالنساخ ويجعلونهم في غرف خاصة ويجعلون لهم جوارٍ وخدمًا ليتفرغوا للنسخ، وكان بعض العلماء لهم نساخًا يعملون في النسخ والمقابلة وتصحيح النسخ، وبعض النساخين تجاوزوا النساخة إلى التصنيف، وصاروا علماء كبار فيما بعد، ومِن رواج هذه المهنة قد اشتغل فيها غير المسلمين كما يذكر ابن النديم في (الفهرست، ص: 296) أن يحيى بن عدي المنطقي النصراني قد اشتهر بالنساخة، فقد اشتهر بنسخ كتب الفلاسفة والمتكلمين، ومما نسخه أيضًا تفسير الطبري مرتين.
وأقيمت في حواضر بلاد الإسلام المدارس التي يقام في أروقتها الدروس التي يملي فيها الشيوخ على الطلاب؛ فتولد كتب ونسخ منها، وظهرت شيئًا فشيئًا مكتبات تابعة لهذه المدارس، وظهرت ظاهرة وقف للكتب على هذه المكتبات مِن بعض العلماء والأعيان لينتفع بها طلبة العلم.
ولعل المثال الأوضح: هو مكتبة المدرسة الضيائية التي أقامها المقادسة عندما رحلوا إلى دمشق عند الغزو الصليبي فاستقروا عند سفح جبل قاسيون، واشتغلوا بالعلم والنسخ، ثم انتقلت كتبها إلى المدرسة العمرية بعد ذلك، لتستقر أخيرًا في المكتبة الظاهرية (الأسد) بدمشق.
أمَّا المساجد الكبرى: فهي أقدم مِن المدارس مِن حيث إقبال طلاب العلم عليها، وتكوين مكتبات بها، ولعل "الأزهر الشريف" خير مثال على ذلك؛ فقد قسِّمت أروقة الأزهر إلى عدة أقسام: (رواق الشراقوة - ورواق الصعايدة - ورواق المغاربة - ورواق الشوام - وغير ذلك)، وكان لكل رواق مكتبته الخاصة التي أوقف على كلٍّ منها كتب خاصة.
وتنوعت المكتبة الإسلامية بأمهات الكتب في فنون عدة، وأصبح بين يدي علماء الإسلام تراثًا كبيرًا يشتغلون فيه، وظهرت عناية هؤلاء العلماء بالتراث منذ القدم، فبعضهم يختصر كتابًا، وآخر يشرحه، وثالث ينتقده، ورابع ينظمه، وهكذا.
فمثلًا: ألَّف عبد الغني المقدسي كتاب الكمال في معرفة الرجال، فجاء الحافظ المزي فهذبه في "تهذيب الكمال" وهو أكبر مِن أصله، ثم جاء الذهبي فألف "تذهيب التهذيب" اختصره وزاده فوائدَ، ثم جاء ابن حجر فألف "تهذيب التهذيب" اختصره وزاده فوائدَ أيضًا، ثم اختصره "تقريب التهذيب".
فتجد الكتاب الواحد يمر بدورة، يضع كل عالم فيها مرحلة من العناية، تزيد الكتاب وضوحًا، وقد اُنتقد ذلك مِن الحاقدين على التراث، وقالوا: كان المتأخر يكرر إنتاج المتقدم، كأن الأمة عقمت بعد عصورها الأولى، وتوقفت الحركة العلمية في العصور المتأخرة.
والجواب: أن العالِم كان ينظر لأحوال طلبة العلم في زمانه، فيحاول أن يقرِّب الكتاب القديم لهم، فيضطر لنظمه أو اختصاره ليسهل عليهم حفظه، أو شرحه والتنكيت عليه ليسهل عليهم فهمه، أو الاستخراج عليه ليؤكِّد ويوثق محتواه، أو يستدرك عليه ما قد فاته ليكمل فائدته، أو ينتقده ليصلح خطأ فيه.