كتبه/ الشحات البقوشي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن لكلِّ أمة تراثًا تعتز به؛ فهو سر نهضتها، ومَكمن قوتها، فهو لها كالجذر للشجرة، كلما كان الجذر قويًّا مدَّ الأغصان بالطاقة، وكانت ثمار الشجرة زكية؛ لذا لا تنتظر ثمارًا من شجرة انفصلت عن جذرها، ولا تنتظر تقدمًا مِن أمة أهملت تراثها أو تنكرت له.
ولقد كان أول أمر في التنزيل قوله -تعالى-: (اقرَأ) (العلق:1)، وكأن علماء الأمة استجابوا لهذا الأمر، فما مِن عصر إلا وترك علماؤه تراثًا علميًّا في كل مجالٍ مِن مجالات الحياة، وإن كانت العلوم الشرعية لها الدور الأكبر من هذا التراث، وكان التراث يمثِّل الوقود الذي يعيد للأمة الحركة بعد كل محنة تلم بها، وكل انتكاسة تصيب تقدمها.
ومِن العجيب: أن كل أمة عندما يحاربها العدو إنما يحارب جيشها، ويصوب سهامه نحو حصونها، إلا أمة الإسلام؛ فإنها عندما تُحارَب يكون مِن تلك الحروب حربًا بين عدوها وعلمائها، وتصوب ضربات العدو نحو مكتباتها وتراثها كما تصوب نحو حصونها، وليس ما فعله المغول بمكتبات بغداد في نهر الفرات، لجهلهم وعدم تقديرهم للعلم والعلوم فحسب؛ بل لعلمهم بقيمة هذا التراث ومدى تأثيره على الأمة، فهم -إذا أرادوا السيطرة على الأمة- فينبغي لهم أن يفصلوها عن ماضيها، وهذا كان ديدن الأعداء المعتدين على الأمة على مرِّ الزمان، محاولة فصل الأمة عن تراثها بطرق عدة، منها:
- إتلاف تراثها: كما سبق ذكر ما فعله التتار، حيث عمدوا إلى حاضرة الخلافة الإسلامية يقتلون أهلها ويبيدون تراثها، وكأنهم يرون أن التراث قد يعيد الحياة لمن قتل من الأمة.
- سرقة التراث الإسلامي: فإن العالم الغربي منذ ظهور الإسلام بدأ دوره يتراجع؛ فقد دخلت بلاد الشام في الإسلام وانفصلت عن الرومان، وحاولوا بعد قرون استعادتها ففشلت حملاتهم الصليبية، ثم توجهت فتوحات العثمانيين إلى قلب القارة الأوروبية وأسقطوا عاصمة الدولة البيزنطية، وجعلوها حاضرة الخلافة الإسلامية، كانت ضربات متتابعة جعلت مِن الأوروبيين مَن يتعجب ويكظم غيظه، ويأتي لبلاد الإسلام ليس محاربًا، بل متعلمًا، وهم فيما عُرِفوا بعد ذلك بالمستشرقين، فيدرسون مواطن قوة الأمة ومن أين يأتيها الخلل ليعودوا بعد ذلك إلى بلادهم بما اشتروه أو نهبوه من كتب المسلمين في كافة الفنون، ليعكفوا عليها ويخرجوا منها بفوائد جعلتهم على ما هم عليه اليوم.
- التنكر لتراثنا: وإذا كان الغرب قد انتفع بتراث أمتنا انتفاعًا هو سر تقدمه، حتى أصبحت بلادهم مقصد طلاب العلم من بلادنا ووجهتهم، وبدلًا من أن يقول الغرب لتلاميذهم من المسلمين: "هذه بضاعتكم ردت إليكم"، إذا بهم يوحون إليهم: أنكم متى تخلصتم من تراثكم تقدمتم؛ وإلا فلا! فيرجع بعض مَن تربى على هذه المعاني يتنكر للتراث، ويعتدي عليه، مسفِّهًا جهود الأقدمين، داعيًا لإعادة قراءة التراث والتخلص مما لا يليق -مِن وجهة نظره هو-، وهي دعوى حق يُراد بها باطل، فقراءة التراث أمر مهم؛ لكن بالضوابط التي يضعها علماء الإسلام؛ لا بضوابط يضعها الغرب.
وبين هذه المخاطر الثلاث التي يتعرض لها التراث الإسلامي، يبقى كثيرٌ من المسلمين لا يعطون أي اهتمام لكلمة (تراثنا)، ولا يعرفون عنه الكثير، فنحن في حاجة لقدرٍ مِن "ثقافة تراثية"، نعرف من خلالها كيف بدأ المخطوط العربي، وأين تتركز مكتباته الآن، وفنون التعامل معه؛ لعل بهذه الثقافة نستعيد أمجاد الماضي في الأذهان فتنتقل بالسعي إلى واقع. ونسأل الله التوفيق والإعانة.
تراثنا المخطوط... تاريخه وجغرافيته:
التراث: هو كل إنتاج حضاري خلَّفه الأجداد، والتراث المخطوط كل ما خطه العلماء السابقون من مصنفات وكتب في كل العلوم التي تناولوها.
ولفظ (المخطوط) لم يظهر أولًا، بل تم تداوله عندما ظهر المصطلح المضاد، وهو (المطبوع)، فمع ظهور الطباعة وظهور الكتاب المطبوع اضطر العاملين بالتراث أن يستخدموا لفظ: (المخطوط)؛ تمييزًا للفظ الجديد الذي يدل على الكتاب بعد طباعته.
أما قبل ظهور الطباعة فكانت النسخ المخطوطة هي المتداولة، حيث ظهر لذلك عدد مِن الأعمال، منها: الوارقة، وهو مَن يصنع الورق أو يتاجر فيه، والنساخة وهم: مَن يقومون بنسخ كتب العلماء بالأجر، وكانوا يتميزون بسرعة الكتابة وجمال الخط.