كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالإسراء والمعراج آية مِن آيات الله -تعالى-، لازمها التشريف والتكريم لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- والتسلية له، وانتقال له مِن حالٍ إيماني هو حق اليقين إلى أكمله وأعلاه، وهو "عين اليقين"؛ كل ذلك لازم قوله -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1)، وقوله: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم:18).
وهو استدعاء رباني للتكليف بأعظم ركن مِن أركان الإسلام بعد الشهادتين "وهو الصلوات الخمس" الذي شرَّف الله -تعالى- به هذه الأمة إذ لم تصلِّ أمة قبلنا هذه الخمس، ودليل ذلك قول موسى -عليه السلام- لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- لما فرض الله عليه خمس صلوات: (إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ) (متفق عليه). وهذا مما يجب الإيمان به.
هذا وقد لخَّص الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هذه الرحلة المباركة مِن مجموع الروايات الثابتة عنه -صلى الله عليه وسلم- تلخيصًا طيبًا، هو المعتمد فيها -إن شاء الله-.
قال -رحمه الله-: "فَصْل: وَإِذَا حَصَلَ الْوُقُوف عَلَى مَجْمُوع هَذِهِ الْأَحَادِيث صَحِيحهَا وَحَسَنهَا وَضَعِيفهَا، فَحَصَلَ مَضْمُون مَا اِتَّفَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَسْرَى رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَكَّة إِلَى بَيْت الْمَقْدِس وَأَنَّهُ مَرَّة وَاحِدَة. وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ عِبَارَات الرُّوَاة فِي أَدَائِهِ أَوْ زَادَ بَعْضهمْ فِيهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْخَطَأ جَائِز عَلَى مَنْ عَدَا الْأَنْبِيَاء -عَلَيْهِمْ السَّلَام-، وَمَنْ جَعَلَ مِنْ النَّاس كُلّ رِوَايَة خَالَفَتْ الْأُخْرَى مَرَّة عَلَى حِدَة فَأَثْبَتَ إِسْرَاءَات مُتَعَدِّدَة فَقَدْ أَبْعَدَ وَأَغْرَبَ وَهَرَبَ إِلَى غَيْر مَهْرَب، وَلَمْ يَتَحَصَّل عَلَى مَطْلَب. وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضهمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَام- أُسْرِيَ بِهِ مَرَّة مِنْ مَكَّة إِلَى بَيْت الْمَقْدِس فَقَطْ، وَمَرَّة مِنْ مَكَّة إِلَى السَّمَاء فَقَطْ، وَمَرَّة إِلَى بَيْت الْمَقْدِس وَمِنْهُ إِلَى السَّمَاء، وَفَرِحَ بِهَذَا الْمَسْلَك وَأَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِشَيْءٍ يَخْلُص بِهِ مِنْ الْإِشْكَالَات، وَهَذَا بَعِيد جِدًّا، وَلَمْ يُنْقَل هَذَا عَنْ أَحَد مِنْ السَّلَف وَلَوْ تَعَدَّدَ هَذَا التَّعَدُّد لَأَخْبَرَ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهِ أُمَّته وَلَنَقَلَهُ النَّاس عَلَى التَّعَدُّد وَالتَّكَرُّر. قَالَ مُوسَى بْن عُقْبَة عَنْ الزُّهْرِيّ: كَانَ الْإِسْرَاء قَبْل الْهِجْرَة بِسَنَةٍ، وَكَذَا قَالَ عُرْوَة، وَقَالَ السُّدِّيّ: بِسِتَّة عَشَر شَهْرًا، وَالْحَقّ أَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَام- أُسْرِيَ بِهِ يَقَظَة لَا مَنَامًا مِنْ مَكَّة إِلَى بَيْت الْمَقْدِس رَاكِبًا الْبُرَاق.
فَلَمَّا اِنْتَهَى إِلَى بَاب الْمَسْجِد رَبَطَ الدَّابَّة عِنْد الْبَاب وَدَخَلَهُ فَصَلَّى فِي قِبْلَته تَحِيَّة الْمَسْجِد رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ وَهُوَ كَالسُّلَّمِ ذُو دَرَج يُرْقَى فِيهَا فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَى بَقِيَّة السَّمَاوَات السَّبْع فَتَلَقَّاهُ مِنْ كُلّ سَمَاء مُقَرَّبُوهَا، وَسَلَّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاء الَّذِينَ فِي السَّمَاوَات بِحَسَبِ مَنَازِلهمْ وَدَرَجَاتهمْ حَتَّى مَرَّ بِمُوسَى الْكَلِيم فِي السَّادِسَة، وَإِبْرَاهِيم الْخَلِيل فِي السَّابِعَة، ثُمَّ جَاوَزَ مَنْزِلَتَيْهِمَا -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِر الْأَنْبِيَاء- حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى مُسْتَوًى يَسْمَع فِيهِ صَرِيف الْأَقْلَام أَيْ أَقْلَام الْقَدَر بِمَا هُوَ كَائِن، وَرَأَى سِدْرَة الْمُنْتَهَى وَغَشِيَهَا مِنْ أَمْر اللَّه -تَعَالَى- عَظَمَة عَظِيمَة مِنْ فَرَاش مِنْ ذَهَب وَأَلْوَان مُتَعَدِّدَة، وَغَشِيَتْهَا الْمَلَائِكَة، وَرَأَى هُنَاكَ جِبْرِيل عَلَى صُورَته وَلَهُ سِتّمِائَةِ جَنَاح، وَرَأَى رَفْرَفًا أَخْضَر قَدْ سَدَّ الْأُفُق.
وَرَأَى الْبَيْت الْمَعْمُور وَإِبْرَاهِيم الْخَلِيل بَانِي الْكَعْبَة الْأَرْضِيَّة مُسْنِد ظَهْره إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْكَعْبَة السَّمَاوِيَّة يَدْخُلهُ كُلّ يَوْم سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْمَلَائِكَة يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَرَأَى الْجَنَّة وَالنَّار، وَفَرَضَ اللَّه عَلَيْهِ هُنَالِكَ الصَّلَوَات خَمْسِينَ ثُمَّ خَفَّفَهَا إِلَى خَمْس رَحْمَة مِنْهُ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ، وَفِي هَذَا اِعْتِنَاء عَظِيم بِشَرَفِ الصَّلَاة وَعَظَمَتهَا، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس وَهَبَطَ مَعَهُ الْأَنْبِيَاء فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ لَمَّا حَانَتْ الصَّلَاة، وَيَحْتَمِل أَنَّهَا الصُّبْح مِنْ يَوْمئِذٍ، وَمِنْ النَّاس مَنْ يَزْعُم أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي السَّمَاء وَاَلَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَات أَنَّهُ بِبَيْتِ الْمَقْدِس، وَلَكِنْ فِي بَعْضهَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّل دُخُوله إِلَيْهِ، وَالظَّاهِر أَنَّهُ بَعْد رُجُوعه إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِمْ فِي مَنَازِلهمْ جَعَلَ يَسْأَل عَنْهُمْ جِبْرِيل وَاحِدًا وَاحِدًا وَهُوَ يُخْبِرهُ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِق؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مَطْلُوبًا إِلَى الْجَنَاب الْعُلْوِيّ لِيُفْرَض عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّته مَا يَشَاء اللَّه -تَعَالَى-، ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ اِجْتَمَعَ بِهِ هُوَ وَإِخْوَانه مِنْ النَّبِيِّينَ، ثُمَّ أَظْهَرَ شَرَفه وَفَضْله عَلَيْهِمْ بِتَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَة، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَة جِبْرِيل -عَلَيْهِ السَّلَام- لَهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْت الْمَقْدِس فَرَكِبَ الْبُرَاق وَعَادَ إِلَى مَكَّة بِغَلَسٍ وَاَللَّه -سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم-.
وَأَمَّا عَرْض الْآنِيَة عَلَيْهِ مِنْ اللَّبَن وَالْعَسَل أَوْ اللَّبَن وَالْخَمْر أَوْ اللَّبَن وَالْمَاء أَوْ الْجَمِيع؛ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ فِي بَيْت الْمَقْدِس، وَجَاءَ أَنَّهُ فِي السَّمَاء، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَاهُنَا وَهَاهُنَا لِأَنَّهُ كَالضِّيَافَةِ لِلْقَادِمِ -وَاَللَّه أَعْلَم-.
ثُمَّ اِخْتَلَفَ النَّاس: هَلْ كَانَ الْإِسْرَاء بِبَدَنِهِ -عَلَيْهِ السَّلَام- وَرُوحه أَوْ بِرُوحِهِ فَقَطْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالْأَكْثَرُونَ مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِبَدَنِهِ وَرُوحه يَقَظَة لَا مَنَامًا، وَلَا يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُون رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى قَبْل ذَلِكَ مَنَامًا ثُمَّ رَآهُ بَعْده يَقَظَة؛ لِأَنَّهُ كَانَ -عَلَيْهِ السَّلَام- لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْل فَلَق الصُّبْح، وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا قَوْله -تَعَالَى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)، فَالتَّسْبِيح إِنَّمَا يَكُون عِنْد الْأُمُور الْعِظَام، فَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِير شَيْء، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْظَمًا، وَلَمَا بَادَرَتْ كُفَّار قُرَيْش إِلَى تَكْذِيبه وَلَمَا اِرْتَدَّتْ جَمَاعَة مِمَّنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ، وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْعَبْد عِبَارَة عَنْ مَجْمُوع الرُّوح وَالْجَسَد، وَقَدْ قَالَ: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا)، وقَالَ -تَعَالَى-: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاك إِلَّا فِتْنَة لِلنَّاسِ) (الإسراء:60)، قَالَ اِبْن عَبَّاس: "هِيَ رُؤْيَا عَيْن أُرِيَهَا رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَة أُسْرِيَ بِهِ وَالشَّجَرَة الْمَلْعُونَة هِيَ شَجَرَة الزَّقُّوم" (رَوَاهُ الْبُخَارِيّ)، وَقَالَ -تَعَالَى-: (مَا زَاغَ الْبَصَر وَمَا طَغَى) (النجم:17)، وَالْبَصَر مِنْ آلَات الذَّات لَا الرُّوح، وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاق، وَهُوَ دَابَّة بَيْضَاء بَرَّاقَة لَهَا لَمَعَان، وَإِنَّمَا يَكُون هَذَا لِلْبَدَنِ لَا لِلرُّوحِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاج فِي حَرَكَتهَا إِلَى مَرْكَب تَرْكَب عَلَيْهِ -وَاَللَّه أَعْلَم-.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرُوحِهِ لَا بِجَسَدِهِ، قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن يَسَار فِي السِّيرَة: حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن عُتْبَة بْن الْمُغِيرَة بْن الْأَخْنَس، أَنَّ مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْرَى رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كَانَتْ رُؤْيَا مِنْ اللَّه صَادِقَة".
وَحَدَّثَنِي بَعْض آلِ أَبِي بَكْر أَنَّ عَائِشَة كَانَتْ تَقُول: "مَا فُقِدَ جَسَد رَسُول اللَّه، وَلَكِنْ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ". قَالَ اِبْن إِسْحَاق: فَلَمْ يُنْكَر ذَلِكَ مِنْ قَوْلهَا لِقَوْلِ الْحَسَن إِنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاك إِلَّا فِتْنَة لِلنَّاسِ)؛ وَلِقَوْلِ اللَّه فِي الْخَبَر عَنْ إِبْرَاهِيم: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَام أَنِّي أَذْبَحك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) (الصافات:102)، قَالَ: ثُمَّ مَضَى عَلَى ذَلِكَ، فَعَرَفْت أَنَّ الْوَحْي يَأْتِي لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ اللَّه أَيْقَاظًا وَنِيَامًا، فَكَانَ رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: (تَنَامُ عَيْنِي وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي) (متفق عليه). وَاَللَّه أَعْلَم.
أَيْ ذَلِكَ كَانَ قَدْ جَاءَهُ وَعَايَنَ مِنْ اللَّه فِيهِ مَا عَايَنَ عَلَى أَيّ حَالَاته كَانَ نَائِمًا أَوْ يَقْظَانًا، كُلّ ذَاكَ حَقّ وَصِدْق" (اِنْتَهَى كَلَام اِبْن إِسْحَاق)، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ أَبُو جَعْفَر بْن جَرِير فِي تَفْسِيره بِالرَّدِّ وَالْإِنْكَار وَالتَّشْنِيع بِأَنَّ هَذَا خِلَاف ظَاهِر سِيَاق الْقُرْآن، وَذَكَرَ مِنْ الْأَدِلَّة عَلَى رَدّه بَعْض مَا تَقَدَّمَ وَاَللَّه أَعْلَم" (انتهى مِن تفسير ابن كثير).
هذا ولم يرد عنه -صلى الله عليه وسلم- احتفال بهذه الليلة كما يفعله بعض الناس "بل هذا مِن البدع"؛ ولنعلم أن الاحتفال الحقيقي هو في حسن التزامنا بديننا، والسعي في إقامته في غيرنا؛ لا باحتفالاتٍ وابتهالاتٍ وشعاراتٍ، ثم يضيِّع كثير منا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-: "وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأتِ في الأحاديث الصحيحة تعيينها, وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عند أهل العلم بالحديث, ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها, ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء مِن العبادات، ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- لم يحتفلوا بها, ولم يخصوها بشيء, ولو كان الاحتفال بها أمرًا مشروعًا لبيَّنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- للأمة إما بالقول أو الفعل, ولو وقع شيء مِن ذلك لعرف واشتهر, ولنقله الصحابة -رضي الله عنهم- إلينا، فقد نقلوا عن نبيهم -صلى الله عليه وسلم- كل شيء تحتاجه الأمة, ولم يفرطوا في شيءٍ مِن الدين, بل هم السابقون إلى كل خير, فلو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعًا لكانوا أسبق الناس إليه.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو أنصح الناس للناس, وقد بلَّغ الرسالة غاية البلاغ, وأدى الأمانة, فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها مِن دين الإسلام لم يغفله النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يكتمه, فلما لم يقع شيء مِن ذلك علم أن الاحتفال بها وتعظيمها ليسا مِن الإسلام في شيء, وقد أكمل الله لهذه الأمة دينها, وأتم عليها النعمة, وأنكر على مَن شرع في الدين ما لم يأذن به الله, قال -سبحانه وتعالى- في كتابه المبين مِن سورة المائدة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3), وقال -عز وجل- في سورة الشورى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى:21).
وثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحيحة التحذير مِن البدع, والتصريح بأنها ضلالة؛ تنبيهًا للأمة على عظم خطرها, وتنفيرًا لهم مِن اقترافها، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) (متفق عليه), وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) (رواه مسلم), وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (رواه مسلم), وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)" (انتهى ملخصًا).
جعلنا الله وإياكم ممَن يحيي الله بهم السنن، ويميت البدع.