كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيعيش العلمانيون في بلاد المسلمين حالة من الذعر والهلع؛ لامتلاك الإسلاميين مساحة ضئيلة من الخريطة الإعلامية، التي كانت حكرًا على العلمانيين طوال قرن أو أكثر من الزمان، وخلال فترة احتكارهم للإعلام كانوا يصورون لأوليائهم من شياطين الإنس والجن أنهم قد نجحوا في القضاء على الدين قضاء مبرمًا، وأن الدين لم يعد له وجود إلا في الزوايا والخبايا، ولكنهم فوجئوا مع وجود نافذة إعلامية صغيرة للإسلاميين أن الناس مازالوا -والفضل لله وحده- مقبلين على التدين، بل إن شئت قل: مقبلين على التدين السني النقي القائم على الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
فوجئ هؤلاء أن عامة القوم -وأكثرهم من المستمعين إلى الغناء والموسيقى- إذا أراد أحدهم أن يشاهد برنامجا دينيًّا، يفضل برامج الذين يفتون بحرمة الغناء الذي هو واقع فيه، فيفضله على برامج الذين يسوغون باطله، وهذا يدل على أن الحق مازال له سلطان في القلوب، رغم أن سلطان الهوى مازال أكبر من الناحية العملية في قلوب كثير من الناس.
أسقط في أيدي العلمانيين وراحوا يستدعون كل ذي سلطة على منع أي نافذة إعلامية للإسلاميين، ولو كان الأمر بيدهم؛ لرجعوا بالعالم كله إلى عصر ما قبل ثورة الاتصالات حتى لا يروا حسرتهم بأعينهم، فنسأل الله أن يميت من لم يرد هدايته منهم كمدًا وحسرة.
وعلى الرغم من كثرة اتهام العلمانيين لأهل السنة بالجمود -رغم ما يتمتع به أهل السنة بفضل الله -تبارك وتعالى- من المرونة في حدود الساحة التي أتاحها الشرع- إلا أن العلمانيين في زماننا هم الجامدون حقًّا على تراث الجيل الأول منهم في بلادنا، الذين كانوا بدورهم مجرد مترجمين لآراء المستشرقين.
الحاصل أن هؤلاء القوم لا يعرفون في مواجهة الدين إلا الطريقة التي حفظوها عن أوليائهم، وهي مواجهة كانت أمام دين النصارى المحرف المبدل الذي هو بحق دين الخرافة والمتناقضات، فتسلل العلمانيون الأوروبيون الأوائل من ثغرة الخرافة؛ ليهدموا الدين كله، لا دين النصارى المحرف المبدل، بل مبدأ العبودية لله والإيمان بالرسل والرسالات والإيمان بالغيب، وعلى خطاهم سار أقرانهم في بلاد المسلمين، ولم يجدوا كبير عناء في تكرار التجربة ومحاكاة أساتذتهم.
فالصوفية -آنذاك- هم التيار السائد، وهو مذهب قد حاكى النصارى في معظم بدعهم وخرافاتهم وتقديسهم للأموات وارتمائهم على عتبات القبور، ولم يكن العلمانيون الأوائل في حاجة إلى تذكير الناس بخطر هذا الدين المحرف على دنياهم، ففي كل حي لا بد أن يوجد من أصابه العمى؛ لما اكتحل بتراب قبر السيدة، أو من مات بالكوليرا؛ لما شرب من مشروبات الموالد الملوثة، بل إن أحد كبار متقدميهم أصاب العمى عينيه من جراء شيء كهذا، فتعدى العمى عينيه إلى قلبه.
هكذا كسب العلمانيون الجولة الأولى بسرعة أو هكذا ظنوا، ولكن الله قيض لدعوة التوحيد أن تنتشر، وأن تبدد ظلمات الخرافة الصوفية، ومعها تبددت كل مسوغات العلمانية وخسرت الصوفية المعركة، وفي التوقيت نفسه خسرت العلمانية المعركة؛ لأن العلمانية أشبه بكائن طفيلي خبيث يعيش على عفن الخرافة، فمتى هلك الأصل؛ هلك الفرع لا محالة.
وهذه الصورة تنطبق على كل صور العلمانية حتى العلمانية الأوروبية، على الرغم مما قد يبدو للناظر لأول وهلة من أن العلمانية في الغرب قد صارت بناء شامخًا ثابتًا، وذلك؛ لأنها تستند على خلفية دين الخرافة بجذورها في أعماقه إلى درجة لا تمكنه من أي نوع من المواجهة، إلا أن هذا البناء العلماني الشامخ في بلاد أوربا يترنح بفضل الله -عز وجل- أمام الإسلام دين الفطرة، الذي بدأ يجد طريقه إلى عقول وقلوب الأوروبيين.
وأما العلمانية في بلاد المسلمين فهي وإن استولت على عقول كثير ممن يسمون بالمثقفين في أواخر القرن العشرين، إلا أنها انحسرت بسرعة عن أوساط المثقفين، بل أصبحت أوساط المثقفين يغلب عليها الإسلاميون بصفة عامة "ومن جمود العلمانيين أنهم مازالوا يسمون أنفسهم: بالمثقفين، استنادًا على تراث تاريخي يوم كان خريجو الجامعات بالعشرات والمئات على أقصى تقدير، وكان معظمهم مثقفًا ثقافة علمانية".
انحسر التيار العلماني فعليًّا منذ أواسط القرن العشرين لاسيما منذ فترة السبعينيات منه، ولكنه بقي مسيطرًا على الإعلام يلقي من خلاله الكذبة ويصدقها بأن جموع الشعب مع المثقفين، وأن الإسلاميين شرذمة قليلة في الزوايا والخبايا بلا أي رصيد، وأفاق العلمانيون على أن الزوايا الصغيرة المكانية التي حصروا فيها الإسلاميين قد تحولت إلى زوايا صغيرة -أيضًا- ولكنها إعلامية، ولم يعد في وسعهم أن يزعموا أن الناس منصرفين عن الإسلاميين.
وبسرعة بحثت طفيليات العلمانية على أي جيفة صوفية خرافية يشبعونها نقدًا وتجريحًا، ثم يرفعون رايات النصر على جثمانها المتعفن، فلم يعدموا فتوى شاذة هنا، وكلامًا ساقطًا هناك، ووجدوا استسلامًا عجيبًا من الصوفية، الذين لا يطيقون سماع مجرد نقد علمي شرعي لما عندهم من غلوٍ في الصالحين إذا كان صادرًا من دعاة السنة، متهمين إياهم بازدراء الأولياء وعدم محبتهم وعدم محبة النبي-صلى الله عليه وسلم-، بينما لما تعلق الأمر بالعلمانية؛ سارعوا برفع الراية البيضاء بأن قصصهم لا تناسب العصر، وكأنهم علموا بالضبط مراد العلمانيين؛ فأعطوه إياهم مذعنين.
ونحن نقول لكلا الفريقين: لو كانت هذه الأقوال من دين الله؛ لناسبت كل عصر ولما سببت جرحًا لمن تكلم بها.
ونقول لطفيليات العلمانية: لا يغرنكم انتصاركم -أو في واقع الأمر نموكم الطفيلي- على خرافات الصوفية العفنة، فإن هذا لا ينفعكم في مواجهة الوحي الصادق من كتاب الله والسنة الصحيحة الثابتة.
بل نقول: إن كليكما قد أسقط الأخر، وصب في رصيد دعاة الحق، وسبحان الله وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القائل (وَإِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هذا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفاجِرِ) (رواه البخاري).