الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الجمعة 21 يناير 2011 - 17 صفر 1432هـ

في ظلال كتاب "بصائر في الفتن"

للدكتور محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم -حفظه الله-

كتبه/ محمد سرحان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

"فما أحوجنا في هذا الزمان المملوء بالفتن والأكدار على أن نستبصر بطبائع الفتن، وكيفية النجاة منها، مِن خلال هدي القرآن الكريم والسنة الشريفة، وكذا هدي الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-؛ فإن الفتن تترى كالسحب المتراكمة، وتتواتر عمياء صماء مطبقة كقطع الليل المظلم، أو كالأمواج المتلاطمة، تطيش فيها العقول، وتموت فيها القلوب إلا من عصمه الله -عز وجل-". بهذه الكلمات بدأ الشيخ -حفظه الله- مقدمته موضحًا في كلمات طبيعة الفتن، وكيفية النجاة منها.

لقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من الفتن(1):

وقل أن يخلو ديوان من دواوين السنة مِن كتابِ الفتن أو باب الفتن.

قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: "بَاب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال:25)، وَمَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَذِّرُ مِنْ الْفِتَنِ".

وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: أَشْرَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي أَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ) (متفق عليه).

قال النووي -رحمه الله-: "والتشبيه بمواقع القطر في الكثرة والعموم، أي إنها كثيرة، وتعم الناس لا تختص بها طائفة".

الفتن واقعة لا محالة:

الفتن واقعة في هذه الأمة كونًا وقدرًا، ولابد أن يقع ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أخبر، ومِن ثمَّ فلابد من التبصر بها، والاستعداد لها، والحذر منها، بل يجب مضاعفة الحذر منها في عصرنا؛ لأننا صرنا أقرب إلى أشراط الساعة مما كان عليه المسلمون منذ أربعة عشر قرنًا.

عن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

وعن أمير المؤمنين معاوية -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ بَلاَءٌ وَفِتْنَةٌ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ خَيْرًا لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ مَا يَعْلَمُهُ شَرًّا لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَتْ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَإِنَّ آخِرَهُمْ يُصِيبُهُمْ بَلاَءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، ثُمَّ تَجِيءُ فِتَنٌ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، ثُمَّ تَجِيءُ فِتْنَةٌ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ؛ فَلْتُدْرِكْهُ مَوْتَتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يَأْتُوا إِلَيْهِ..) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الآخِرَةِ(2)، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا: الْفِتَنُ، وَالزَّلاَزِلُ، وَالْقَتْلُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وفي التاريخ الكبير للبخاري: "إن أمتي أمة مرحومة جُعل عذابها بأيديها في الدنيا".

الحذر من الشر باب من أبواب الخير:

قال حذيفة -رضي الله عنه-: "كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي.." (متفق عليه)

ما أحوجنا في هذا الزمان المملوء بالفتن والأكدار على أن نستبصر بطبائع الفتن، وكيفية النجاة منها، مِن خلال هدي القرآن والسنة، وكذا هدي الصحابة

.

فـ"الدفع أسهل من الرفع"، و"التخلية مقدمة على التحلية"، و"الوقاية خير من العلاج"، وأحيانًا تكون العلاج الوحيد، والخبرة بالظلام تميزه عن النور، وتعصم من التورط فيه.

عرفت الشر لا للشر           ولــكـن لـتـوقــيـه

ومن لا يعرف الـشر           من الخير يقع فيه

فحذيفة -رضي الله عنه- أحاط خُبرًا بما سيكون من فتن وسوء ونفاق، حتى احتاج إلى علمه كبار الصحابة، وطفق مثل عمر -رضي الله عنه- يسأله ويستشيره.

من طبائع الفتن:

للفتن طبائع وخصائص يعين الاستبصار على توقيها والنجاة منها، وما أكثر الفتن التي وقعت بسبب غياب البصيرة بهذه الطبائع، فمنها:

1- أنها تتزين للناس في مباديها حتى تغريهم بملابستها والتورط فيها:

قال ابن حزم -رحمه الله-: "نُوَّار الفتنة لا يَعْقِدُ"، أي: إن للفتنة مظهرًا خداعًا في مبدئه حتى يستحسن الناس صورتها، ويعقدوا الآمال عليها، ولكن سرعان ما تموت وتتلاشى مثل الزهرة التي تموت قبل أن تتفتح وتعطي ثمرتها.

2- الفتن تذهب بعقول الرجال وتستخفهم ببُداءاتها:

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تكون فتن تعرج فيها عقول الرجال حتى ما تكاد ترى رجلاً عاقلاً) (رواه نعيم في الفتن، وصححه الهندي في كنز العمال).

وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ)، قَالُوا: "وَمَا الْهَرْجُ؟"، قَالَ: (الْقَتْلُ)، قَالُوا: "أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ؟! إِنَّا لَنَقْتُلُ كُلَّ عَامٍ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا!"، قَالَ: (إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا)، قَالُوا: "وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟!"، قَالَ: (إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ -قليلو العقل أراذل- مِنَ النَّاسِ، يَحْسِبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ)، قَالَ أَبُو مُوسَى: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مِنْهَا مَخْرَجًا إِنْ أَدْرَكَتْنِي وَإِيَّاكُمْ، إِلا أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْنَا فِيهَا لَمْ نُصِبْ مِنْهَا دَمًا وَلا مَالاً" (رواه أحمد، وصححه الألباني).

3- الفتنة إذا جُففت منابعها، وسُدت ذرائعها، وحُسمت مادة أوائلها، وأخذ على أيدي سفهائها، ولم يلتفت لقولهم: "ما أردنا إلا الخير"؛ سلمت الأمة من غوائلها، وكُفي الناس شرها:

عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا) (رواه أحمد والبخاري).

وكان النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- إذا سرد هذا الحديث يقول قبله: "يا أيها الناس خذوا على أيدي سفهائكم"، فإذا سرده عاد فقال: "خذوا على أيدي سفهائكم قبل أن تهلكوا".

4- أنها متى وقعت سرعان ما تتطور وتخرج عن حدود السيطرة، حتى إنها لتسعصي على مَن أشعلوها إن حاولوا إطفاءها:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، وهذا شأن الفتن كما قال الله -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال:25)، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله" "منهاج السنة".

نور الفطنة يبدد ظلمات الفتنة:

شبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- الفتنة بقطع الليل المظلم، أي: الذي لا قمر فيه ولا ضياء، فالساري فيه على شفا هلكة إن لم يكن معه نور يبصر به مواقع قدمه، وهو في حال الفتن نور العلم الذي يكشف أهلها ويبين حالها.

قال حذيفة -رضي الله عنه-: "لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل".

وقد سمى الله كتابه العزيز نورًا، فقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) (النساء:174).

وسماه بصائر، قال الله -تعالى-: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (الأنعام:104).

وقد صح عن عبد الرحمن بن أبزى قال: "قلت لأبي بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان: أبا المنذر ما المخرج؟ قال: كتاب الله ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكِله إلى عالمه".

العلماء سفينة نوح:

قال الله -تعالى-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (الأنبياء:7)، وقال الله -عز وجل-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء:83).

قال السعدي -رحمه الله-: "في هذا دليل لقاعدة أدبية؛ وهي إنه: إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَن هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم؛ فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ" "تفسير السعدي".

إن ذهاب العلم مقترن برواج الفتن، وإن الالتحام بالعلماء عصمة للأمة من الضلال، والعلماء سفينة نوح مَن تخلف عنها -لا سيما في زمن الفتن- كان من المغرقين.

وعن هلال بن خباب قال: "سألت سعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك العلماء".

الدنيا كلها ظلمة إلا مجالس العلماء:

قال الله -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108)، فأهل العلم هم أهل البصيرة الذين نوَّر الله قلوبهم؛ فميزوا الحق من الباطل.

قال الحسن البصري -رحمه الله-: "الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل".

إن الالتحام بالعلماء والصدور عن توجيههم من أهم سبل الوقاية من الفتن، والعصمة من الزيغ والضلال؛ فقد أعزّ الله دينه بالصِّدَّيق الأكبر -رضي الله عنه- يوم الردة, وبأحمد بن حنبل يوم المحنة, وبابن تيمية يوم الغزو التتري الوحشي، وتأمل كيف كشف الألباني وابن باز -رحمهما الله- ببصيرة نافذة زيف دعوى المهدي القحطاني، ولكنَّ الجاهلين لأهل العلم أعداء!

الصبر زمن الفتن:

قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153)، والله -سبحانه- يجزي المؤمن على صبره كما قال -سبحانه-: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) (المؤمنون:111)، فأخبر -سبحانه- أنه جزاهم على صبرهم، كما قال -عز وجل-: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) (الفرقان:20)، أي: أتصبرون على البلاء فقد عرفتم ما وجد الصابرون.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ) (متفق عليه)، وقال عمر -رضي الله عنه-: "أدركنا خير عيشنا بالصبر"، وقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر: (كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ يَكُونُ الْبَيْتُ فِيهِ بِالْوَصِيفِ) -يَعْنِي الْقَبْرَ، والوصيف: الخادم-، قُلْتُ: "اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ"، قَالَ: (عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ)، أَوْ قَالَ: (تَصْبِرُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

قال القاري: "الظاهر أن معنى الحديث: كما لا يمكن القبض على الجمرة إلا بصبر شديد، وتحمل غلبة المشقة؛ كذلك في ذلك الزمان لا يتصور حفظ دينه ونور إيمانه إلا بصبر عظيم" "تحفة الأحوذي".

مقارنة الحلم والرفق، ومفارقة العجلة والطيش:

عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ) (رواه مسلم)، وعن خباب -رضي الله عنه- قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: "أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟"، قَالَ: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (رواه البخاري).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (التَّأَنِّي مِن الله، والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطانِ) (رواه أبو يعلى والبيهقي، وصححه الألباني).

وقال أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-: "لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمُه جهلَه، وصبرُه شهوتَه، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم".

وساق الشيخ -حفظه الله- آثارًا كثيرة تؤكد أهمية الحلم وخطورة العجلة، وساق الشيخ كلامًا رائعًا لابن القيم -رحمه الله- يحذر فيه من استفزاز البُداءات، فكان مما قال: "في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح، وما أُتي العبد إلا من تضييعهما أو تضييع أحدهما، فما أُتي أحد إلا من باب العجلة والطيش واستفزاز البداءات له، أو من باب التهاون والتماوت وتضييع الفرص بعد مواتاتها؛ فإذا حصل الثبات أولاً والعزيمة ثانيًا أفلح كل الفلاح".

وذكر الشيخ -حفظه الله- مواقف كثيرة من الثبات عند الفتن، نذكر أحدها:

قال حميد بن هلال: أتى مطرف بن عبد الله زمان بن الأشعث ناس يدعونه إلى قتال الحجاج، فلما أكثروا عليه قال: "أرأيتم هذا الذي تدعوني إليه: هل يزيد على أن يكون جهادًا في سبيل الله؟"، قالوا: "لا"، قال: "فإني لا أخاطر بين هلكة أقع فيها وبين فضل أصيبه".

العجلة أم الندامات:

قال محمد بن طلحة: رآني زُبيد مع العلاء بن عبد الكريم ونحن نضحك، فقال: "لو شهدتَ الجماجم ما ضحكتَ، ولوددتُ أنَّ يدي -أو قال: يميني- قطعت من العضد وأني لم أكن شهدتُ".

ولما أُتي بفيروز بن الحصين إلى الحجاج قال له: "أبا عثمان ما أخرجك مع هؤلاء؟"، فقال: "أيها الأمير، فتنة عمت" فأمر به فضربت عنقه.

وقال حماد بن زيد: ذكر أيوب السختياني القراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث فقال: "لا أعلم أحدًا منهم قتل إلا قد رُغب عن مصرعه، ولا نجا أحد منهم إلا حمد الله الذي سلمه، وندم على ما كان".

وذكر الشيخ -حفظه الله- مواقف كثيرة تبين خطورة العجلة وندم أصحابها، ثم ذكر آخر الأبواب وهو مسك الختام وقد استغرق نصف الكتاب تقريبًا، وهو من أسباب النجاة من الفتن، وإن كان ما ذكره الشيخ -حفظه الله- فيما سبق فيه بيان لأسباب النجاة من الفتن فأكملها بهذا الباب.

من أسباب النجاة من الفتن:

1- التثبت من الأخبار:

إن التثبت من الأخبار قبل تصديقها -فضلاً عن إذاعتها- منهج قرآني أصيل يُستراح به من القال والقيل، ويوفر مِن طاقة الأمة المهدرة في الفتن ما يفيد في البناء، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6)، والفتن إنما تظهر بالإشاعات والبواطيل، وتنتشر بالقال والقيل مع خفة عقل في نقلتها، ورِقة دين تمنعهم من امتثال أمر الله بالتثبت وترك الاستعجال، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ غَنَمٌ لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ قَالُوا: مَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ لِيَتَعَوَّذَ مِنْكُمْ، فَقَامُوا فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غَنَمَهُ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) (النساء:94)" (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً"، فليس كل ما يعلم يُقال، وقد ترجم البخاري -رحمه الله- في كتاب العلم: "باب: من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألا يفهموا".

وجوب حفظ اللسان:

يجب على كل مكلف أن يكف لسانه ويحفظه عن كل باطل وفي جميع الأوقات والأحوال، بيد أنه يتأكد ذلك إبان الفتنة وحلول المحنة، قال الله -تعالى-: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) (الإسراء:53)، وقال الله -تعالى-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق:18).

وليعلم أن أيسر حركات الجوارح حركة اللسان، وهي أضرها على العبد، وما أكثر الأحاديث والآثار الواردة في التحذير من آفات اللسان، خاصة في زمن الفتن والمحن، منها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟)، قُلْتُ: "بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ"، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: (كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن أَكْثَر مَا يُدْخِلُ النَّارَ؟ قَالَ: (الأَجْوَفَانِ: الْفَمُ، وَالْفَرْجُ) (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني)

إن الالتحام بالعلماء والصدور عن توجيههم من أهم سبل الوقاية من الفتن، والعصمة من الزيغ والضلال

.

وفي الصمت السلامة:

قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَمَتَ نَجَا) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) (متفق عليه).

وقال عمر -رضي الله عنه-: "من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به".

يتأكد حفظ اللسان في الفتن: قال حذيفة -رضي الله عنه-: "إن الفتنة وكلت بثلاث: بالحاد النحرير الذي لا يرتفع له شيء إلا قمعه بالسيف، وبالخطيب الذي يدعو إليها، وبالسيد. فأما هذان فتبطحهما لوجوههما، وأما السيد فتبحثه حتى تبلو ما عنده".

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ تَسْتَنْظِفُ الْعَرَبَ -أي تستوعبهم هلاكًا- قَتْلاَهَا فِي النَّارِ، اللِّسَانُ فِيهَا أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ السَّيْفِ) (رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الشيخ أحمد شاكر).

وقد ذكر الشيخ -حفظه الله- آثارًا كثيرة في حفظ اللسان وقت الفتن، وآثارًا عن السلف في التورع عن آفات اللسان في الفتن، نذكر اثنين منها فقط؛ لكثرتها، وإرادة الاختصار:

عن شريك قال: "سألت إبراهيم بن أدهم عما كان بين علي ومعاوية -رضي الله تعالى عنهما-، فبكى، فندمت على سؤالي إياه، فرفع رأسه فقال: "إنه من عرف نفسه اشتغل بنفسه، ومن عرف ربه اشتغل بربه عن غيره".

وقال الشافعي: "قيل لعمر بن عبد العزيز: "ما تقول في أهل صفين؟ قال: تلك دماء طهر الله يدي منها، فلا أحب أن أخضب لساني بها".

رب قول يسيل منه دم:

لا ينحصر شؤم إطلاق اللسان في الفتن في ولائم السوء التي يسودها الجدل والمراء، والغيبة والنميمة، لكن يتعداها إلى آثار خطيرة في واقع الأمة، فالشر مبدؤه شرارة، و"معظم النار من مستصغر الشرر"، وكثير من الفتن تبذر بذرتها في مجالس الغيبة والوقيعة، ولا يتوقع أصحابها أن تبلغ ما بلغت.

جراحات الطعان لها التئام                ولا يلتئم ما جرح اللسان

2- من أسباب النجاة: اعتزالها والفرار منها:

فقد حث الشرع الشريف على اجتناب المشاركين في الفتن، وكف اليد عنها والفرار منها، عن بلال بن سعد في قول الله -تعالى-: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ) (العنكبوت:56)، قال: "عند وقوع الفتنة أرضي واسعة؛ ففروا إليها".

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ ، أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، وَتَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، فَاخْتَلَفُوا، وَكَانُوا هَكَذَا؟) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالُوا: "كَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ؟"، قَالَ: (تَأْخُذُونَ بِمَا تَعْرِفُونَ، وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى خَاصَّتِكُمْ، وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَوَامِّكُمْ) (رواه أبو داود وابن ماجه واللفظ له، وصححه الألباني)؛ ولذا كان اعتزال كثير من الصحابة الفتنة في زمانهم.

وقد أطال الشيخ -حفظه الله- النفس في بيان ذلك، وذكر مظاهر التطبيق العملي لمبدأ كف اليد عن المشاركة في الفتن واعتزالها، نذكر واحدة منها، وهي: أن مروان بن الحكم لما دعا أيمن بن خريم إلى الخروج في قتال فتنة أجابه: "إن أبي وعمي شهدا بدرًا وإنهما عهدا إلي ألا أقاتل أحدًا يقول: لا إله إلا الله؛ فإن أنت جئتني ببراءة من النار قاتلت معك".

وأكثر ما تتأكد العزلة في الفتن لأحد صنفين:

أحدهما: من خشي على دينه أن يُفتن فيه ويحول عنه.

والثاني: من كان ذا بأس وشدة يخشى على الناس منه ومن بأسه، ومثله صاحب الرأي والمشورة والدهاء الذي يخشى على الناس من رأيه.

فائدة العزلة وقت الفتن:

1- صيانة الدين عن المساس، والنفس عن التلف، والعِرض عن الضيم والانتهاك، والمال عن الضياع، وقل من شارك في فتنة وسلمت له هذه كلها.

2- سلامة الصدر على المسلمين.

3- إطفاء الفتنة وإخماد نارها؛ لأن الناس كلما اعتزلوا الفتن قل أهلها، فقل شرها.

ثم ذكر الشيخ -حفظه الله- الحالات التي تشرع فيها العزلة المطلقة أو النسبية الجزئية.

3- من أسباب النجاة: لزوم الجماعة:

فمن لطف الله -تعالى- بهذه الأمة المرحومة أنه لا يجمعها على ضلالة أبدًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَنَالَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ، فَلْيَلْزَمُ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الجَماعَةُ رَحْمَةٌ والفُرْقَةُ عَذابٌ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني)

العمل الصالح وسيلة للثبات على الحق خاصة الصلاةوكذلك الدعاء والضراعة إلى الله

.

ثم ختم الشيخ هذا الجمع القيم الرائع بأمرين:

الأول: مواجهة الفتن بالعمل الصالح: قال -صلى الله عليه وسلم-: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا) (رواه مسلم)، وقال: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا: الدَّجَّالَ، وَالدُّخَانَ، وَدَابَّةَ الأَرْضِ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ وَخُوَيْصَّةَ أَحَدِكُمْ) (رواه مسلم).

فالعمل الصالح وسيلة للثبات على الحق، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) (النساء:66)، وصاحب العمل الصالح لا يخزيه الله أبدًا، فقد استدلت خديجة -رضي الله عنها- بصالح أعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة أن الله لا يخزيه أبدًا.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (صَنائِعَ المَعْرُوفِ تَقِي مَصارِعَ السُّوءِ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).

وخاصة الصلاة: فقد "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، صَلَّى" (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني)، فللصلاة خصوصية في دفع الفتن ورفعها.

وكذلك الدعاء والضراعة إلى الله: مِن أسباب كشف الغمة وتفريج الكربة، وكذا التعوذ بالله من الفتن.

الثاني: تمني الموت إذا خاف الإنسان على دينه من الفتن: وذكر حكم ذلك، وأدلته من الكتاب والسنة، فما أحوجنا إلى هذه البصائر ونحن في آخر الزمان؛ زمان الفتن والبلايا والمحن.

وهذا تطواف سريع مع هذا البحث القيم، اقتطفنا فيه أجزاء مهمة منه؛ لعلها تكون نورًا لمن استرشد، وهدى لمن أراد الهداية.

فنسأل الله أن يقينا من الفتن من ما ظهر منها وما بطن، وأن يثبتنا على الإسلام حتى نلقاه.

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أصل معنى الفتنة في اللغة يدل على الابتلاء والاختبار.

(2) قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وهو محمول على معظم الأمة؛ لثبوت أحاديث الشفاعة: أن قومًا يعذبون ثم يخرجون من النار ويدخلون الجنة".