الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 19 مايو 2010 - 5 جمادى الثانية 1431هـ

الطريق إلى الولد الصالح 7- مدة الرضاع

كتبه/ عصام حسنين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمن الخطوات المهمة على الطريق إلى الولد الصالح: الاهتمام بأمر رضاعه؛ لأنه الأساس لما وراءه من تنشئة وتربية، فهو ينشز العظم، وينبت اللحم، وبداية للتربية النفسية والاجتماعية.

ولكي تتم هذه المرحلة على أكمل وجه أداءً للمسئولية التي جعلها الله -تعالى- في عنق الوالدين كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا) (متفق عليه)؛ نسوق هذه الإرشادات من نور وهداية قوله -تعالى-: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:233).

ذهب جمهور العلماء إلى أن رضاع الطفل لا يجب على أمه؛ إلا إذا تعينت مرضعًا بأن كان لا يقبل غير ثديها أو كان الوالد عاجزًا عن استئجار المرضعة، أو يقدر لكن لم يجدها.

واستدلوا على الاستحباب بقوله -تعالى-: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) (الطلاق:6)، وبلغ من حد اهتمام الإسلام برضاع الطفل أن أخَّر إقامة الحد على الأم الزانية إلى حين انتهاء مدة رضاعه منها كما في قصة الغامدية.

وجعل وعيدًا شديدًا لمن تمتنع من رضاع ولدها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلاَنِ فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ... ) الحديث... وفيه: (ثُمَّ انْطَلَقَ بِي، فَإِذَا أَنَا بِنِسَاءٍ تَنْهَشُ ثُدِيَّهُنَّ الْحَيَّاتُ، قُلْتُ: مَا بَالُ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ يَمْنَعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ أَلْبَانَهُنَّ) (رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وصححه الألباني).

وبلغ من درجة اهتمام الإسلام بالطفل أنه في حالة الطلاق يكون في حضانة أمه؛ لأنه في حاجة مادية وعاطفية لا تكون إلا من أمه، قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)؛ لأن الأم أشفق وأقدر على تربيته في هذا السن إلا أن تتزوج؛ لأنها حينئذ ستنشغل عنه بالزواج، ولا يتوفر للطفل جو المودة والمحبة والعطف الذي يحتاجه.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الأم أصلح من الأب؛ لأنها أرفق بالصغير وأعرف بتربيته وحمله، وتنويمه وأصبر عليه وأرحم به؛ فهي أقدر وأرحم وأصبر في هذا الوضع، فتعينت في حق الطفل غير المميز في الشرع" اهـ نقلاً عن "توضيح الأحكام 6/42".

وعليه؛ فلتتقِ الأم ربها -تعالى- ولا تترك طفلاً في سن الرضاع لراعية أطفال أو خادمة في بيت أو حضانة من أجل عمل أو غيره.

- كانت وصفة أحد الأطباء الأمريكيين لكل أم تأتي بطفلها المريض إليه: "العلاج هو العودة إلى الأم الحقيقية"!

- ليست وظيفة الأم في هذه المدة قاصرة على تغذيته باللبن أو تغيير ملابسه وتنظيفه، بل هي وظيفة لا يقوم بها أحد إلا الأم تتعبد بها لربها -تعالى- بالنية الصالحة ترضع ولدها من خلالها الرحمة والعطف كما روي عن عمرو بن عبد الله أنه قال لامرأته وهي ترضع ابنًا لها: "لا يكونن رضاعك لولدك كرضاع البهيمة ولدها، قد عطفت عليه من الرحمة بالرحم، ولكن أرضعيه تتوخين ابتغاء ثواب الله، وأن يحيا برضاعك خلق عسى أن يوحِّد الله ويعبده" اهـ بتصرف من "عودة الحجاب 2/515 وما بعدها".

- والأحسن ألا يرضعه إلا أمه؛ لأنه أنفع وأمرأ، وقد يكون واجبًا عليها كما تقدم.

- وإذا أرضعته غيرها، فيُستحب أن يسترضع له المرضعة الحسنة الخَلق والخُلُق؛ لأن الرضاع يغيِّر الطباع، ويؤثر في الخلق والذكاء، وقد أثبتت الدراسات الطبية أن لبن الأم يحتوي على بعض أنواع البروتينات التي تحمل الصفات الوراثية، ومنه تنتقل إلى الرضيع كثير من هذه الصفات، ومن ها هنا سبق وأن ذكرنا أهمية اختيار الزوجة الصالحة النجيبة، وكذا استرضاع المرضعة الصالحة.

- وكره العلماء استرضاع الفاجرة والكافرة سيئة الخلق؛ لئلا يسري إلى الولد؛ لأن العادة جارية أن الرضيع يغلب عليه أخلاق المرضعة من خير أو شر.

- ورزق الوالدة والمرضعة على والد الطفل بما جرت به العادة من غير إسراف ولا إقتار؛ لقوله -تعالى-: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

قال الغزالي -رحمه الله-: "ينبغي أن يراقب ولده في أول أمره، فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، فإذا وقع عليه الصبي انعجنت طينته من الخبيث؛ فيميل بطبعه إلى ما يناسب الخبائث... " اهـ من "الإحياء 2/71"، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ إِنَّهُ لاَ يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلاَّ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

- الأكمل والأحسن أن تكون الرضاعة لمدة عامين، كما قال الله -تعالى-: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذا إرشاد من الله -تعالى- للوالدات: أن يُرضعن أولادهن كمال الرضاعة، وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك، ولهذا قال -تعالى-: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)... ولا يُرضع بعد الحولين؛ لأنه ربما أضر الولد إما في بدنه أو عقله، فعن علقمة أنه رأى امرأة ترضع بعد الحولين فقال: "لا ترضعيه" اهـ من "التفسير 1/284".

- وعلى الأم ألا تدفع ولدها لأبيه لتضره بتربيته وليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبأ -وهو اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالبًا- ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت، ولكن إن كانت مُضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك، وكذلك ليس للوالد أن ينزع الولد من أمه إضرارًا بها، قاله مجاهد وغير واحد تفسيرًا لقوله -تعالى-: (لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ).

- ولا بأس بفطام الطفل قبل الحولين؛ لقوله -تعالى-: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "فإن اتفقا والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤْخَذُ منه: أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره.

وهذا احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه... وختم -تعالى- الآية مخوفًا عباده، وحاضًا لهم على مراقبته -تعالى- في جميع ما أمرهم به: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) اهـ بتصرف "1/284".

- وإذا نظرنا فيما جعله الله -تعالى- حقًا للطفل؛ وجدناه مصلحة كله -والحمد لله-، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90).

- وهذا الذي أنزله الله -تعالى- على رسوله -صلى الله عليه وسلم- منذ أربعة عشر قرنًا نادت به المنظمات الدولية والهيئات الصحية العالمية حديثًا حيث أوصت بأنه يجب على كل أم أن تقوم بإرضاع طفلها؛ لأن لبن الأم أفضل!

- وهذا من آيات الله -تعالى- التي يُظهر حكمتها لعباده حتى يتبين لهم أنه الحق، قال -تعالى-: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت:53).

ولكي تتم عملية الرضاعة على أحسن وجه، وتؤتي أحسن ثمارها؛ فعلى الأم:

- أن تُرضع ولدها في وضع مناسب، وأن ترضعه في مكانه حتى لا يتعود على الحمل والالتصاق بالأم، وهذا يضيع كثيرًا من حقوق الزوجين وباقي الأولاد، كما أنه يُعوِّد الولد الاتكالية والخوف من الآخرين.

- وعليها أن تتوخى رضاعه، ولا تنتظر به حتى يبكي؛ لئلا يتخذ البكاء وسيلة لإشباع رغباته، ومن ثمَّ يتعلم العناد، ويتطور معه الأمر حتى ينشأ ضعيفًا اتكاليًّا معتمدًا على غيره في قضاء حاجاته.

- ويعرف جوع الرضيع بتحريك رأسه يمينًا وشمالاً أو فتح فمه أو إخراج لسانه، أو وضع أصبعه في فمه أو قيامه ببعض الأصوات الهادئة.

- وعليها أن تبتعد عن الأسباب التي تؤثر على لبنها بالسلب: كالتوترات النفسية والعصبية، وعدم أخذ قدر كافٍ من الراحة، وعدم التغذية المناسبة وقلة شرب السوائل والإكثار من شرب الشاي والقهوة.

- وأن يكون نوم طفلها بجوارها؛ فقد أثبتت الأبحاث أن الطفل يشارك أمه الشعور والأحاسيس منذ ولادته ويمكنه أن يميز صوتها، ويشعر به ويميل إليها.

- وعليها أن تداعبه منذ يومه الأول؛ ليشعر بالدفء والأمان.

- وعليها بذكر الله -تعالى- وتلاوة القرآن وإسماعه ذلك، وتعويذه بالرقى والمعوذات من القرآن والسنة.

- وبعد ستة أشهر من الولادة تطعمه طعامًا إضافيًّا من ماء وعصائر تدريجيًّا مع الاستمرار في الرضاعة حتى سنتين ما دام الطفل والأم في صحة جيدة.

- وإن أراد الوالدان فطام الطفل قبل سنتين فيكون عن تشاور كما أمر الله -تعالى- إذا وجدا المصلحة في ذلك.

- وأن يكون الفطام تدريجيًّا، ولا يفرق بين الولد وأمه، ويكون رويدًا رويدًا، وبرفق بعيدًا عن وسائل العنف حتى تأمن الآثار السلبية على نفسية الطفل.

- وعلى الأم الاهتمام بصلاتها، ومراعاة حق زوجها، ولتحذر أن يشعر زوجها شعورًا سيئًا أن الولد أخذها منه، أو أن فترة قبل الإنجاب أفضل من بعد ذلك، ولتعلم أن معظم مشاكل البيوت نتيجة هذا الإهمال من الزوجة الأم لزوجها! وعلاج ذلك سهل -إن شاء الله- بقليل من التنظيم وإعطاء كل ذي حق حقه.

- ولتعلم أن بول الصبي الذي لم يأكل إن أصاب ثيابها فإنها تنضحه بالماء -تغمره- وإن أكل فيجب أن يُغسل "مع عَصر".

وأما البنت فيغسل بكل حال سواء أكلت أم لم تأكل.

وبعد؛ فليحمد الله -تعالى- كل منا على ما حباه الله -تعالى- من نعم من جعل الرحمة في قلب والديه، يعطفان عليه ويسهران على شأنه، ولولا ذلك؛ لمات، وأنه -تعالى- أوجب له حق الرضاع الذي لا رزق نافع له سواه.

فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حمدًا يوافي نعمه ويدافع نقمه، ويكافئ مزيده.