الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 26 نوفمبر 2025 - 5 جمادى الثانية 1447هـ

الوقفات الإيمانية مع الأسماء والصفات الإلهية (3) اسم الله "القريب"

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

المقدمة:

- التعرف على الله -تعالى- أجَلُّ أنواع المعرفة، والتعبد له -تعالى- بأسمائه وصفاته أجَلُّ أبواب التعبد: قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) (الأعراف: 180). وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (متفق عليه).

- وَرَدَ اسمه سبحانه "القريب" في القرآن ثلاثَ مرَّاتٍ، كما في قوله -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، وقوله -تعالى-: (قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (سبأ: 50)، وقوله -تعالى-: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود: 60).

- مدخلٌ وعظيٌّ لإثارة النفوس للتعرف على هذا الاسمِ "القريبِ": (مِن خلال إشارة مختصرة حول مشهد إلقاء إخوة يوسفَ -عليه السلام- له في البئرِ، وقد ظنُّوا أنَّهم أبعدوهُ عن عين أبيه وعن أعين الناس، وأنه سَيَهْلِكُ لا محالةَ، ونسُوا أنَّ القريبَ -سبحانه- أقربُ إليهِ منهم ومِنَ الناسِ! قال -تعالى-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (يوسف: 15)).

الوقفة الأولى: معنى اسم الله "القريب":

- المعنى في حق الله -عزَّ وجلَّ-: قال السعديُّ -رحمه الله-: "هو القريب من كل أحد، وقربه نوعانِ: قرب عامّ مِنْ كل أحدٍ: بعلمه، وخبرته، ومراقبته، ومشاهدته، وإحاطته، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد. وقرب خاصّ: مِنْ عابديه، وسائليه، ومجيبيه، وهو قُرب يقتضي المحبة، والنصرة، والتأييد في الحركات، والسكنات، والإجابة للداعين، والقبول، والإثابة. وهو المذكور في قوله -تعالى-: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب) (العلق: 19)، وفي قوله -تعالى-: (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود: 60)، وفي قوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: 186)" (الحق الواضح المبين).

تنبيهٌ إيمانيٌّ مُهِمٌّ جدًّا: اختارَ بعضُ العلماءِ النوعَ الثانيَ وخَصَّ به اسمَ اللهِ "القريبَ"(1): قال ابنُ القيمِ -رحمه الله- في "النُّونيَّةِ":

وَهُـوَ القَرِيبُ وَقُرْبُهُ المُخْتَصُّ                 بالدَّاعِـي وَعَابِدِهِ عَلَى الإِيمَانِ

وقال السعديُّ -رحمه الله-: "وهذا النوعُ قُربٌ يقتضي ألطافَه -تعالى-، وإجابتَهُ لدعواتهم، وتحقيقَهُ لمراداتهم؛ ولهذا يُقْرَنُ باسمه "القريب" اسمه "المجيب". وهذا القرب قُرب لا تُدرَكُ له حقيقةٌ، وإنما تُعلَمُ آثارُهُ: مِنْ لطفه بعبده، وعنايته به، وتوفيقه، وتسديده. ومِنْ آثاره: الإجابة للداعين، والإثابة للعابدين" (الحق الواضح المبين).

الوقفة الثانية: قريب في علوِّه سبحانه:

- لا مُنَافَاةَ بينَ عُلُوِّهِ سبحانَهُ فوقَ خلقِهِ، وقربِهِ مِنْ عبده: عن أبي موسى الأشعريِّ -رضي الله عنه- قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا بِالتَّكْبِيرِ، قَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ) (متفق عليه).

- ولذا كانتِ المناجاةُ في الدعاءِ أفضلَ مِنَ الجهرِ؛ لأنَّها دالَّةٌ على عظيمِ استشعارِ الداعي قُربَ ربِّه: قال -تعالى-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف: 55)، وقال: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف: 205)(2).

- المناجاةُ في الدعاءِ دليلٌ على قُربِ المُناجي مِنَ اللهِ، وأنَّهُ لاقترابِهِ منهُ وشِدَّةِ حضورِهِ، يسألُهُ مسألةَ مناجاةٍ للقريبِ، لا مسألةَ نداءِ البعيدِ للبعيدِ: ولهذا أثنى -سبحانه- على عبده زكريا -عليه السلام- بذلك: (كَهيعص . ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا . إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) (مريم: 1- 3).

- ومِن لطائف المناجاة: أنَّ أفضلها ما كان في السجودِ؛ لأنَّها تكونُ أبعدَ عن الناس، مع استشعار المُناجي شِدَّةَ القُربِ! قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعاءَ) (رواه مسلم).

الوقفة الثالثة: كيف نستجلب قرب الله -تعالى-؟

- تمهيدٌ بإشارة وعظية إلى حالِ كثيرٍ مِنَ الناسِ مع مَنْ يُحبُّونَ مِنَ المخلوقينَ: في أنَّه كلما اشتدَّتِ المحبة، زاد سعيهم في البحث عن السُّبُل الموصلة إلى القُرب مِنْ المحبوب (هدايا، تَمَلُّقٌ، ثناءٌ، بَذْلُ الأموالِ، تَحَمُّلُ تعبِ الأبدانِ، وغير ذلك)، ليصلوا إلى قربه منهم ورضاه عنهم... فكيف إذا كان المحبوب هو مَلِكَ السماوات والأرض، الذي بيده كل شيء؟

- مَلِكُ السماوات والأرض، الذي بيده كل شيء، يُرَغِّبُ عباده في السعي في قُربه، ويثني على الساعين في قُربه: قال -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) (الإسراء: 57).

- وبيَّنَ لهم جزاء السعي في قُربه في الدنيا والآخرة كما في الحديث القدسي: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) (رواه البخاري). وقال -تعالى-: (فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ . فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) (الواقعة: 88- 89).

- وبيَّنَ لهم السُّبُل والوسائل التي يستجلبونَ بها قُربه -تعالى- كما في الحديث القدسي: (مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ عَبْدِي بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ دَعَانِي لَأُجِيبَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ...) (رواه البخاري والبزار). وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَقْرَبُ ما يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ المَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟) (رواه مسلم).

فاللهمَّ إنا نسألك حُبَّك، وحبَّ مَنْ يُحِبُّك، وكلَّ عملٍ يُقَرِّبُنا إليك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "واعلم أنَّ مِنَ العلماءِ مَنْ قَسَّمَ قُرْبَ اللهِ -تعالى- إلى قسمينِ؛ كالمعيَّةِ، وقال: القربُ الذي مقتضاهُ الإحاطةُ قُربٌ عامٌّ، والقربُ الذي مقتضاهُ الإجابةُ والإثابةُ قُربٌ خاصٌّ. ومِنْهُم مَنْ يقولُ: إنَّ القربَ خاصٌّ فقط؛ مُقتَضٍ لإجابةِ الداعي وإثابةِ العابدِ، ولا ينقسمُ. ويستدلُّ هؤلاءِ بقوله -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ) (رواه مسلم)، وأنه لا يمكن أن يكون اللهُ -تعالى- قريبًا مِنَ الفجرةِ الكَفَرَةِ. وهذا اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ وتلميذِهِ ابنِ القيمِ -رحمهما الله تعالى-" (شرح العقيدة الواسطية).

(2) قال ابنُ القيمِ -رحمه الله-: "فكلَّما استَحْضَرَ القلبُ قُرْبَ اللهِ -تعالى- منهُ؛ وأنه أقربُ إليهِ مِنْ كلِّ قريبٍ وتَصَوَّرَ ذلك، أخْفَى دُعاءَهُ ما أمكَنَهُ، ولم يَتَأَتَّ لهُ رفعُ الصوتِ بهِ، بل يراهُ غيرَ مُستَحْسَنٍ، كما أنَّ مَنْ خاطَبَ جليسًا لهُ -يسمعُ خَفِيَّ كلامِهِ- فبالغَ في رفعِ الصوتِ: اسْتُهْجِنَ ذلكَ مِنْهُ، وللهِ المثلُ الأَعلَى -سبحانه-" (بدائع الفوائد).