الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 05 نوفمبر 2025 - 14 جمادى الأولى 1447هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (235) بناء إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- البيت ‏وتأذينه في ‏الناس بالحج (18)‏

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ . ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ . حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 25-31).

الفائدة الثانية:

لما كانت مكة قد شرَّفها الله على كلِّ بقاع الأرض وجعلها لعباده المؤمنين سواءً ولهذا لما فتحها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقسمها بين الغانمين ولم يضرب عليها الخراج كما تعامل مع أهل خيبر، قسم جزءًا منها وترك جزءًا عامل اليهود فيه على العمل فيها على نصف ما يخرج منها مزارعة ومساقاه، وكذلك تعامل عمر مع أرض الخراج في الشام والعراق ومصر، وغيرها، أي: الأرض التي فتحت عنوه، فملكها المسلمون، لكنها مما لا يجب قسمتها؛ لأن الله -عز وجل- إنما أحل للأمة الغنائم التي حرمها على من قبلنا وهي الغنائم المنقولة، وأما الأرض فإنه جعلها لمن قبلنا: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ . يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (المائدة: 20-21).

ولما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة لما أبوا أن يقاتلوا مع موسى بعد خروجهم من التيه قاتلوا مع يوشع بن نون، وفتحوا بيت المقدس وملكوا الأرض؛ فدلَّ ذلك على أنها لم تحرم عليهم، فالأرض المغنومة لا يلزم قسمتها، بل يجوز قسمتها ويجوز تركها؛ فلذا ضرب عمر الخراج على الأرض التي فتحت عنوه في الشام والعراق ومصر، وغيرها خراجًا ثابتًا كأنه أجرة للمسلمين؛ أما مكة: فهي وقف من الله ورسوله على المسلمين جميعًا إلى آخر الزمان، وهي أعز عند الله أن يضرب عليها خراج أو يتملكها أناس مخصوصون يتوارثها أهلهم بعدهم، ويضيق الأمر على المسلمين في نسكهم وحجهم وعمرتهم؛ فلذلك لم تقسم، ولم يضرب عليها الخراج.

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد: "فإذا كانت مكة قد فتحت عنوة، فهل يضرب الخراج على مزارعها كسائر أرض العنوة، وهل يجوز لكم أن تفعلوا ذلك أم لا؟ قيل في هذه المسألة قولان لأصحاب العنوة:

أحدهما: المنصوص المنصور الذي لا يجوز القول بغيره، أنه لا خراج على مزارعها وإن فتحت عنوة، فإنها أجل وأعظم من أن يضرب عليها الخراج، لا سيما والخراج هو جزية الأرض، وهو على الأرض كالجزية على الرؤوس، وحَرَم الرب أجلُّ قدرًا وأكبر من أن تضرب عليه جزية، ومكة بفتحها عادت إلى ما وضعها الله عليه من كونها حَرَمًا آمنًا يشترك فيه أهل الإسلام؛ إذ هو موضع مناسكهم ومتعبدهم، وقبلة أهل الأرض.

والثاني -وهو قول بعض أصحاب أحمد-: أن على مزارعها الخراج، كما هو على مزارع غيرها من أرض العنوة، وهذا فاسد مخالف لنص أحمد -رحمه الله- ومذهبه، ولفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين من بعده -رضي الله عنهم-، فلا التفات إليه، والله أعلم.

وقد بنى بعض الأصحاب تحريم بيع رباع مكة على كونها فتحت عنوة، وهذا بناء غير صحيح، فإن مساكن أرض العنوة تباع قولا واحدا، فظهر بطلان هذا البناء والله أعلم" (انتهى كلام ابن القيم من زاد المعاد).

فلا يصح التضييق على الناس في سكنى الأراضي المفتوحة في حجهم وعمرتهم؛ إلا ما يضيِّق على الحجاج والمعتمرين طرقهم ومناسكهم، وكذلك يعطِّل على أهل مكة مصالحهم؛ قال ابن القيم -بعد أن بيَّن شأن الأرض المغنومة، وأنها أقسام؛ منها ما يقسم، ومنها ما يضرب عليها الخراج-: "فصل: وأما مكة فإن فيها شيئًا آخر يمنع من قسمتها ولو وجبت قسمة ما عداها من القرى، وهي: أنها لا تُملَك، فإنها دار النُّسُك ومُتعبَّد الخلق وحرم الرب -تعالى- الذي جعله للناس سواءً العاكفُ فيه والباد فهي وقف من الله على العالمين، وهم فيها سواء -(قلتُ: أي المسلمين)- ومِنى مناخ من سبق. (قلتُ: ذكرنا سابقًا ضعف الحديث بالتفصيل).

قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج: ??)، والمسجد الحرام هنا المراد به الحرم؛ لقوله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (التوبة: ??)، فهذا المراد به الحرم كلُّه؛ وقولِه سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) (الإسراء: ?)، وفي الصحيح: أنه أسري به من بيت أم هانئ.

وقال -تعالى-: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة: ???)، وليس المراد به حضور نفس موضع الصلاة اتفاقًا، وإنما هو حضور الحرم والقربُ منه، وسياق آية الحج يدل على ذلك فإنه قال: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج: ??)، وهذا لا يختص مكان الصلاة قطعًا، بل المراد: الحرم كلُّه، فالذي جعله للناس سواءً العاكفُ فيه والباد هو الذي توعَّد مَن صدَّ عنه ومن أراد الإلحاد بالظلم فيه، فالحرم ومشاعره: كالصفا والمروة، والمسعى، ومنًى وعرفةَ ومزدلفةَ، لا يختص بها أحد دون أحد، بل هي مشتركة بين الناس؛ إذ هي محل نسكهم ومتعبَّدهم، فهي مسجد من الله وقَفَه ووضعه لخلقه، ولهذا امتنع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُبنى له بيت بمنًى يُظِلُّه من الحر وقال: "منًى مناخ من سبق" (قلتُ: ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود).

قال: ولهذا ذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز بيع أراضي مكة ولا إجارةُ بيوتها؛ هذا مذهب مجاهد وعطاء في أهل مكة، ومالكٍ في أهل المدينة، وأبي حنيفة في أهل العراق، وسفيانَ الثوري والإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وإسحاق بن راهويه.

وروى الإمام أحمد عن علقمة بن نضلة قال: "كانت رِباع مكة تُدعى السوائب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر؛ من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن" (أخرجه ابن بي شيبة وابن ماجه والدارقطني بإسناد صحيح عن علقمة، وهو مرسل فإن علقمة تابعي صغير لم يدرك زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا زمن أبي بكر وعمر).

وروي أيضًا عن عبد الله بن عمر: "من أكل أجور بيوت مكة فإنما يأكل في بطنه نار جهنم" (أخرجه أبو عبيد في الأموال وابن أبي شيبة والدارقطني عن عبد الله بن عمر موقوفًا، وهذا الإسناد لا بأس به).

ورواه الدارقطني مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه: "إن الله حرم مكة، فحرام بيعُ رِباعها وأكلُ ثمنها" (إسناده ضعيف، قال الدارقطني: وهم في رفعه فهو موقوف).

وقال الإمام أحمد: حدثنا معتمر عن ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد أنهم قالوا: يكره أن تباع رِباعُ مكة أو تُكرى بيوتها.

وذكر أحمد عن القاسم بن عبد الرحمن قال: من أكل من كراء بيوت مكة فإنما يأكل في بطنه نارًا.

وقال أحمد: حدثنا هشيم، بسنده عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر قال: "نُهي عن إجارة بيوت أهل مكة وعن بيع رِباعها" (إسناده فيه مقال).

وذكر عن عطاء قال: نهي عن إجارة بيوت أهل مكة.

وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، قال: حدثنا عبد الملك، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمير أهل مكة ينهاهم عن إجارة بيوت مكة، وقال: إنه حرام. (قلتُ: وهذا قد روي عن عمر بن عبد العزيز من وجوه كثيرة).

إلى أن قال: "قال المجوزون للبيع والإجارة: الدليل على جواز ذلك: كتابُ الله، وسنة رسوله، وعمل أصحابه وخلفائه الراشدين؛ قال الله -تعالى-: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) (الحشر: ?)، وقال: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) (آل عمران: ???)، وقال: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) (الممتحنة: ?)، فأضاف الدور إليهم، وهذه إضافة تمليك.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد قيل له: أين تنزل غدًا بدارك من مكة؟ فقال: (وهل ترك لنا عَقِيل من رِباع؟!)، ولم يقل: إنه لا دار لي، بل أقرهم على الإضافة، وأخبر أن عقيلًا استولى عليها، ولم ينزعها من يده.

وإضافة دورهم إليهم في الأحاديث أكثر من أن يُذكَر، كدار أم هانئ ودار خديجة ودار أبي أحمد بن جحش وغيرها، فكانوا يتوارثونها كما يتوارثون المنقول، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وهل ترك لنا عَقِيل من منزل؟)، وكان عقيل هو ورث أبا طالبٍ دُورَه، فإنه كان كافرًا ولم يرثه عليٌّ لاختلاف الدين بينهما، فاستولى عقيل على الدور. ولم يزالوا قبل الهجرة وبعدها، بل قبل المبعث وبعده، من مات وَرِث ورثتُه دارَه، وإلى الآن.

وقد باع صفوان بن أمية دارًا لعمر بن الخطاب بأربعة آلاف درهم فاتخذها سجنًا.

وإذا جاز البيع والميراث فالإجارة أجوَز وأجوز.

فهذا موقف أقدام الفريقين كما ترى، وحججهم في القوة والظهور لا تُدفَع، وحجج الله وبيناته لا يُبطل بعضُها بعضًا، بل يصدق بعضها بعضًا، ويجب العمل بموجَبها كلِّها، والواجب اتباع الحق أين كان، فالصواب: القول بموجب الأدلة من الجانبين وأن الدور تملك وتوهب وتورث وتباع، ويكون نقل الملك في البناء لا في الأرض والعرصة، فلو زال بناؤه لم يكن له أن يبيع الأرض، وله أن يبنيها ويعيدها كما كانت، وهو أحق بها يَسكنها ويُسكن فيها من شاء، وليس له أن يُعاوِض على منفعة السكنى بعقد الإجارة، فإن هذه المنفعة إنما استحق أن يتقدّم فيها على غيره ويختص بها لسَبْقه وحاجته، فإذا استغنى عنها لم يكن له أن يعاوض عليها، كالجلوس في الرحاب والطرق الواسعة والإقامةِ على المعدن وغيرِها من المنافع والأعيان المشتركة التي من سبق إليها فهو أحقُّ بها ما دام ينتفع، فإذا استغنى لم يكن له أن يعاوض، وقد صرَّح أرباب هذا القول بأن البيع ونقل الملك في رباعها إنما يقع على البناء لا على الأرض، ذكره أصحاب أبي حنيفة" (انتهى من زاد المعاد).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.