كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فأشفق الوالد على فتاه ناصر من الإرهاق الذي يعانيه جرَّاءَ عدم استقراره في أعمال النجارة، فسأله عن رأيه في أن يعمل معه في دُكّان تصليح الساعات، فوافق الفتى على الفور.
وما أجملَ أن يكونَ الأبُ ناصحًا مُرشِدًا لأبنائه، فيبدي لهم رأيه على نحو ما يتصوَّره ويؤمن به، ويُعبِّر لهم عمّا يجول بخاطره من غير مُجامَلةٍ أو مُهاتَرةٍ أو خداعٍ!
فإذا كان الوالد كذلك فحتمًا سيوافق تعبيرُه الصّادقُ إحساسَ ولدِه الصّادقَ أيضًا، فيستجيب لِنُصحِ والدِه من غير تَمنُّعٍ ولا مُمارَاةٍ، لا سيَّما وأنّه على يقينٍ بأنّ والده هو أكثر مَن ينشد له الحياةَ والنُّهوضَ والتَّقدُّم، فبدأ الفتى رحلةَ العمل مع والده، فأتقن المهنةَ سريعًا، وأصبح ماهرًا فيها، وصار والدُه يُثني عليه، ويُفاخِر به.
وكانا يتناوبانِ العملَ في الدُّكّان، فيذهبانِ معًا في الصَّباح، ويَعملانِ سويًّا حتى صلاة الظُّهر، وبعد الظُّهر يذهب الوالد إلى داره لِيستريح ويبقى الفتى في الدُّكّان، ثم يأتي الوالدُ إلى الدُّكّان مرّةً أُخرى بعد صلاة العصر.
وقد وفَّر هذا العملُ وقتَ فراغٍ لِلفتى، كان حريصًا على اغتنامه فيما ينفع ويفيد، وذلك بحُضورِ الدُّرُوس العامّة في المسجد الأُمويّ، وقراءةِ القصص والرِّوايات.
قال الشَّيخ الألباني -رحمه الله-: "إذا أراد الله أمرًا هيّأ أسبابه، فأنا كنت أعيش في جَوٍّ حنفيٍّ مُتعصِّبٍ، ووالدي كان يُعَدُّ أعلمَ الأرناؤوط بالفقه الحنفيّ، وكان ملاذَهم ومَرجعَهم في هذا الشَّأن.
فلمّا تخرَّجت في المدرسة الابتدائيّة كنت أهوى المُطالَعة بصورةٍ غريبةٍ جدًّا، لكنّها مطالعةٌ -فيما يبدو لِلنّاظر- لا فائدةَ منها، بل قد يكون لها آثارٌ ضارَّةٌ، لكن قد تبيَّن لي فيما بعد أثرُ هذه الدِّراسة في لُغتي، فقد قوَّت لُغةَ نُطقي.
والغريب أنِّي كنت مُولَعًا بقراءة الكتب العصريّة الخياليّة التي تُعرَف بالرِّوايات، وبخاصّة قِصص اللِّص المشهور أرسين لوبين، ثُمّ وجدْتُني نُقلت إلى مرحلةٍ ثانيةٍ قد تكون خيرًا من الأُولى، وهي دراسة القصص العربيّة، حتى لو كانت خياليَّةً، فقرأتُ قصّة "ألف ليلة وليلة"، وقصّة "عنترة بن شدّاد"، وقصّة "صلاح الدِّين الأيُّوبيّ"، وقصّة "ذات الهِمّة والبَطّال" وغيرها، فكنت شَغوفًا جدًّا بمثل هذه المُطالَعات والقراءات.
ثُمّ مِن تمام تدبير الله -عزّ وجلّ- لي، ولُطفِه بي، أنَّني لمّا غيَّرتُ مهنتي ولزمتُ والدي أصبح لَديَّ وقتُ فراغٍ، كُنّا نتبادل الجلوس في دُكّانه، فنأتي صباحًا ونعمل فيه حتى صلاة الظُّهر، وبعد أن يصلّي والدي الظُّهر يذهب إلى الدّار لِيستريح وأبقى أنا في الدُّكّان، ثُمّ يأتي بعد صلاة العصر، فعندما يتوفَّر لي الوقت بحيث لا توجد ساعاتٌ أصلحها أستأذنُ والدي في الخروج من الدُّكّان، إلى أين؟ كان هذا أيضًا توفيقًا من الله، أذهب إلى المسجد الأُمويّ لِحُضور بعض الدُّرُوس العامّة، وتأثَّرت بشيءٍ منها من النّاحية الفكريّة، تبيَّن لي فيما بعد أنّ بعضَها صوابٌ وبعضَها خطأٌ، وهذا الخطأ يتعلَّق بشيئَين: التَّقليد والتَّصَوُّف.
وفي فُسحتي هذه التي أخرج فيها مِن دُكّان أبي قيَّض الله لي رَجُلًا مِصريًّا كَهلًا، كان يشتري بعضَ التَّرِكَاتِ من الكُتب، ويعرضها أمام دُكّانِه تجاه البابِ الغربيِّ من المسجد الأُمويّ، فكنت أَمُرُّ على كَوْمِ الكُتبِ التي يبسطها أمام دُكّانِه الصَّغير، فأُقلِّبُها، فأجدُ مِن تلك الرِّوايات ما شئتُ، فأستأجرُ منه، وأقرأُ وأُعيدُ، وهكذا" (انتهى).
ونلتقي في المقال القادم -بإذن الله-.
ونَسألُ اللهَ التَّوفيق.