الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 29 أكتوبر 2025 - 7 جمادى الأولى 1447هـ

الوصايا النبوية (40) الوصية بذكر الله بعد الصلاة (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيده، وقال: (يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ. فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

وقفة بين يدي الوصية: (فضل معاذ بن جبل -رضي الله عنه-):

- النبي -صلى الله عليه وسلم- أصدق الخلق، يحلف له أنَّه يحبُّه! (تودُّد بالفعل والقول): أخذ بيده وقال: (يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ!)(1).

وقفة مع قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أُوصِيكَ):

- وصايا الأنبياء -عليهم السلام- أعظم الوصايا؛ لأنهم جمعوا الأوصاف الأربع التي يحصل بها الكمال في النصح: (أعظم الناس بيانًا - أعظم الناس حرصًا على مصلحة المنصوح - أعظم الناس صدقًا فيما يقولون - أكمل الناس علمًا ومعرفة).

- وهذه وصية من أعظم ناصح في البشرية: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128).

مجمل الوصية:

هذه وصية من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- للأمَّة كلِّها بهذا الذِّكر العظيم دبر كلِّ صلاة، لأنَّ الأصل في الخطاب العموم، ما لم يأت الدليل على الخصوصية.

- مدخل للتالي: لنقف وقفة مع فضل الذِّكر، من باب: "إذا كان هذا هو فضل الذِّكر عمومًا؛ فكيف بذكر أوصى به خير ناصح أمين خصوصًا؟!".

فضل الذِّكر:

- وصية اليوم هي نوع من التنبيه على فضل ذكر الله -عزَّ وجلَّ- عمومًا: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 35).

- ذِكْر الله -تعالى- خير الأعمال وأرضاها عند الله، وأرفعها في الدرجات: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَرْضَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟) قالوا: بَلَى. قال: (ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).

- ذكر الله تعالى يعوِّض العاجزين عن قيام الليل قيامهم، ويعوِّض البخلاء بأموالهم أن ينفقوها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ عَجَزَ مِنْكُمْ عَنِ اللَّيْلِ أَنْ يُكَابِدَهُ وَبَخِلَ بِالْمَالِ أَنْ يُنْفِقَهُ، وَجَبُنَ عَنِ الْعَدُوِّ أَنْ يُجَاهِدَهُ فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ) (رواه الطبراني والبزار، وقال الألباني: "صحيح لغيره").

- ذِكْر الله سبحانه وتعالى يجعلك من المفَرِّدين السابقين: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهُ -صلى الله عليه وسلم- يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ، فقال: (سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ)، قالوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: (الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ) (رواه مسلم).

- لا يغفل عن الذِّكر إلَّا الأغبياء: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا تَسْتَقِلُّ الشَّمْسُ فَيَبْقَى شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا سَبَّحَ اللَّهَ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَأَغْبِيَاءِ بَنِي آدَمَ)، قال الوليد -وهو أحد الرواة-: فسألت صفوان بن عمرو: مَا أَغْبِيَاءُ بَنِي آدَمَ؟ فقال: شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ. (أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، وحسنه الألباني)؛ فكيف بذكر أوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!

وقفة مع قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تدَعنَّ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ):

- اختلف الفقهاء في المقصود ب-"دُبُرِ كلِّ صلاةٍ" (قبل السلام أو بعده): قال الصنعاني -رحمه الله- في سبل السلام: "قوله: دبر الصلاة"، يحتمل أنَّه قبل الخروج؛ لأن دبر الحيوان منه، وعليه بعض أئمة الحديث، ويحتمل أنَّه بعدها وهو أقرب؛ والمراد بالصلاة عند الإطلاق المفروضة".

- دبر الصلاة وقت شريف، لا ينبغي للمصلِّي أن ينشغل عنه بشيء (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخصُّه بأنواع من الذِّكر): قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ) (رواه مسلم).

وقفة مع قوله -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ أعنِّي عَلَى ذِكْرَك وشُكْرِك، وَحُسْنِ عَبَادَتِك):

- بمعنى الاستعانة، فما لم يكن هناك عون من الله للإنسان على طاعته وعبادته، فلن يستطيع، فلا حول ولا قوَّة إلَّا بالله، لا حول عن معصية، ولا قوَّة على طاعة إلَّا بالاستعانة به سبحانه، وإلَّا فلا معنى لترديدها في كلِّ ركعة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5).

- (أعنِّي عَلَى ذِكْرَك): فلولا إعانة الله ما وفَّق العبد إلى أداء الصلاة التي فرغ منها، ولا لغيرها من الخير: عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: لَمَّا كان يوم الأحزاب، وخَنْدَقَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رأيته ينقل من تراب الخندق، حتَّى وارى عنِّي الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل من التراب يقول: (اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا، فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا، إِنَّ الْأُولَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا، وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا) قال: ثمَّ يمدُّ صوته بآخرها (متفق عليه).

- (وَعَلَى شُكْرِك): وتكون بالقول، وبالفعل، وبالقلب، على النعم التي لا تحصى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل: 18)، وقال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7).

- (وحُسْن عِبَادَتِك): ولم يقل: (وكثرة)، تنبيهًا على الإتقان، وإلَّا فالكثرة مع عدم الإحسان لا قيمة لها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) (رواه البخاري)؛ ولذا قال -تعالى-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك: 2).

- ومن حُسْنِ العِبَادَةِ التجرُّد عند العبادة عن كلِّ ما يُشْغِل عن الله -عز وجل-، والإخلاص فيها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ ‌صَدْرَكَ ‌غِنًى، ‌وَأَسُدَّ ‌فَقْرَكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ) (رواه أحمد، والترمذي).

خاتمة:

- وصية عظيمة ما أحوجنا إليها؛ لا سيَّما في هذا الزمان الذي ابتعد فيه كثير من الناس عن الذِّكر بأسباب كثيرة، ومن أكثرها شيوعًا وسائل الاتِّصالات الحديثة: قال: (: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ).

فَاللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وكان معاذ -رضي الله عنه- من النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة علية؛ فإنَّه قال له: يا معاذ والله إنِّي لأحبُّك. وكان يردفه وراءه. وروي فيه: أنَّه أعلم الأمَّة بالحلال والحرام، وأنَّه: يحشر أمام العلماء برتوة -أي: بخطوة-.

ومن فضله: أنَّه بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- مبلغًا عنه، داعيًا، ومفقِّهًا، ومفتيًا، وحاكمًا إلى أهل اليمن. وكان يشبِّهه بإبراهيم الخليل -عليه السلام-، وإبراهيم إمام الناس، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: إنَّ معاذًا كان أمَّة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين" (مجموع الفتاوى).