الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 29 سبتمبر 2025 - 7 ربيع الثاني 1447هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (230) بناء إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- البيت ‏وتأذينه في ‏الناس بالحج (13)‏

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ ‏لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا ‏لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . ‏وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ‏وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ ‏الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).‏

قال القرطبي -رحمه الله-‏: "المسألة الثالثة والعشرون: اختلف المتأولون في وجه صفة البيت بالعتيق؛ فقال مجاهد، والحسن: العتيق القديم. ‏يقال: سيف عتيق، وقد عَتُق أي قدم، وهذا قول يعضده النظر. وفي الصحيح أنه أول ‏مسجد وضع في الأرض. وقيل: عتيقًا؛ لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى ‏انقضاء الزمان؛ قال معناه ابن الزبير، ومجاهد. وفي الترمذي، عن عبد الله بن الزبير قال: ‏قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار" قال: ‏هذا حديث حسن صحيح. (قلتُ: سبق بيان المقال فيه ومن ضعفه)، وقد روي عن النبي -صلى ‏الله عليه وسلم مرسلًا-.

فإن ذكر ذاكر الحجاج بن يوسف الثقفي ونصبه المنجنيق على ‏الكعبة حتى كسرها قيل له: إنما أعتقها عن كفار الجبابرة؛ لأنهم إذا أتوا بأنفسهم متمردين ‏ولحرمة البيت غير معتقدين، وقصدوا الكعبة بالسوء فعصمت منهم ولم تنلها أيديهم، كان ‏ذلك دلالة على أن الله -عز وجل- صرفهم عنها قسرًا؛ فأما المسلمون الذين اعتقدوا ‏حرمتها فإنهم إن كفوا عنها لم يكن في ذلك من الدلالة على منزلتها عند الله مثل ما يكون ‏منها في كف الأعداء؛ فقصر الله -تعالى- هذه الطائفة عن الكف بالنهي والوعيد، ولم يتجاوزه ‏إلى الصرف بالإلجاء والاضطرار، وجعل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمر. وقالت ‏طائفة: سمي عتيقًا؛ لأنه لم يملك موضعه قط. وقالت فرقة: سمي عتيقًا؛ لأن الله -عز وجل‏‏- يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب. وقيل: سمي عتيقًا؛ لأنه أعتق من غرق الطوفان؛ ‏قال ابن جبير. وقيل: العتيق الكريم. والعتق الكرم. ‏

وعتق الرقيق: الخروج من ذل الرق إلى كرم الحرية. ويحتمل أن يكون العتيق صفة مدح ‏تقتضي جودة الشيء؛ كما قال عمر: حملت على فرس عتيق؛ الحديث. والقول الأول ‏أصح للنظر والحديث الصحيح. (قلتُ: يعني أنه أول بيت وضع للناس لعبادة الله، قال النبي -‏صلى الله عليه وسلم- لما سأله أبو ذر: أي بيت وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام)، قال ‏مجاهد: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام وسمي عتيقاً لهذا. والله أعلم" (تفسير القرطبي).‏

قال الإمام البغوي -رحمه الله-: "(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ): التفث الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظافر والشعث، تقول العرب لمن تستقذره‏‏: ما أتفثك! أي: ما أوسخك. والحاج أشعث أغبر لم يحلق شعره ولم يقلم ظفره، فقضاء التفث: ‏إزالة هذه الأشياء. (لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) أي: ليزيلوا أدرانهم والمراد منه الخروج عن الإحرام بالحلق ‏وقص الشارب ونتف الإبط والاستحداد وقلم الأظفار ولبس الثياب. قال ابن عمر وابن ‏عباس: قضاء التفث مناسك الحج كلها. وقال مجاهد: هو مناسك الحج وأخذ الشارب ‏ونتف الإبط وحلق العانة وقلم الأظفار. وقيل: التفث هاهنا رمي الجمار؛ قال الزجاج: لا ‏نعرف التفث ومعناه إلا من القرآن.

قوله -تعالى-: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) قال مجاهد: أراد نذر الحج والهدي وما ينذر الإنسان من ‏شيء يكون في الحج أي: ليتموها بقضائها. وقيل: المراد منه الوفاء بما نذر على ظاهره. وقيل: ‏أراد به الخروج عما وجب عليه نذر أو لم ينذر، والعرب تقول لكل من خرج عن الواجب ‏عليه: وفَّى بنذره (قلتُ: الصحيح أنه في النذر على ظاهره، وليس قضاء الواجب)، وقرأ عاصم ‏برواية أبي بكر: "‌وَلِيُوَفُّوا" بنصب الواو وتشديد الفاء.

‏(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أراد به الطواف الواجب عليه وهو طواف الإفاضة يوم النحر ‏بعد الرمي والحلق.

والطواف ثلاثة: طواف القدوم؛ وهو: أن مَن قدم مكة يطوف بالبيت سبعًا، يرمل ثلاثًا من ‏الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه (قلتُ: بخلاف الرمل في عمرة القضية، فكان من الحجر الأسود إلى ‏الركن اليماني لإغاظة المشركين، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمل في حجة الوداع من ‏الركن الأسود إلى الركن الأسود) ويمشي أربعًا، وهذا الطواف سنة لا شيء على من تركه ‏‏(قلتُ: سبق بيان أنه واجب على من أتى مكة وقَدِم المسجد)‏.

عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي أنه سأل عروة بن الزبير فقال: قد حج النبي ‏-صلى الله عليه وسلم- فأخبرتني عائشة أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف ‏بالبيت، ثم لم يكن عمرة، ثم حج أبو بكر، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن ‏عمرة ثم عمر مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت. (قلتُ: فعلوا ‏ذلك؛ لأنهم كانوا قارنين أو مفردين ولم يكونوا متمتعين كما فعل من لم يكن ساق الهدي من ‏الصحابة. والحديث رواه البخاري ومسلم في صحيحهما)‏.

‏عن ابن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا طاف في الحج أو العمرة ‏أول ما يقدم يسعى ثلاثة أطواف ويمشي أربعًا ثم يصلي سجدتين، ثم يطوف بين الصفا ‏والمروة سبعًا.‏

والطواف الثاني: هو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق، وهو واجب لا يحصل ‏التحلل من الإحرام ما لم يأتِ به.

عن عائشة قالت: حاضت صفية ليلة النفر، فقالت: ما أراني إلا حابستكم، قال النبي -‏صلى الله عليه وسلم-: عقرى حلقى أطافت يوم النحر؟ قيل: نعم، قال: فانفري. فثبت بهذا ‏أن مَن لم يطف يوم النحر طواف الإفاضة لا يجوز له أن ينفر.

والطواف الثالث: هو طواف الوداع لا رخصة فيه لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة ‏القصر أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعًا، فمن تركه؛ فعليه دم إلا المرأة الحائض يجوز لها ترك ‏طواف الوداع (قلتُ: سبق بيان أن طواف الإفاضة واجب، وليس بنسك؛ ولذا فيأثم من تركه وليس عليه ‏دم)، و‏عن ابن عباس قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت؛ إلا أنه رخص ‏للمرأة الحائض.‏ والرمل مختص بطواف القدوم، ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع" (تفسير البغوي بتصرفٍ يسيرٍ).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.‏