كتبه/ عبد العزيز خير الدين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالناظر في كثير من المجتمعات يجد خصومات فَرَّقَتْ بين الأحبة، وقطَّعَت الأرحام، تمخَّضَتْ فأنجبت نزاعات مستمرة تؤدي في النهاية إلى عداوة وتَعَدٍّ على الآخرين بالقول والفعل، فكم بسببها قاطع الأخ أخاه، وطلَّق الزوج زوجته، ولم يَأْمَنِ الجار لجاره، ولا الصديق لصديقه، بل امتدت وانتشرت العداوة كانتشار اللهيب في الحطب بين العائلات، والمناطق، والبلاد، لكن من رحمة الله بهذه الأمة أن هيَّأ وارتضى لها عبادة تَفُوق على كثير من العبادات، تُحَوِّل هذه الخصومات إلى مودة، وهذا النزاع إلى تآلف وترابط، ألا وهي الإصلاح بين الناس.
فقد جاء في سنن أبي داود من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ؟) قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: (إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ) (رواه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني).
وقد ظهر ذلك في مجتمعاتنا بما تُسمَّى: (جلسات الصلح والتحكيم)، والتي سَهَّلَتْ ويَسَّرَتْ على الناس حل خلافاتهم قبل أن تستفحل، وخَفَّفَتْ عنهم الأعباء المالية فلم يَلْجَئُوا إلى المحاكم مباشرة، حيث إن هذه الجلسات لا تتطلب رسومًا قضائية أو أتعاب محاماة كبيرة.
ومن هذه الجلسات ما يكون صلحًا بين متخاصمين، وإما أن تكون حقوقًا بينهما ومظالم يتم التحاكم والفصل فيها بحكم الإسلام. وقد أقرها وبيَّن فضلها وقيمتها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رغم شهوده لها قبل الإسلام حين قال: (لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ) (رواه ابن هشام في السيرة النبوية).
وحتى تكون هذه الجلسات العرفية مثمرة ونافعة، لا بد من نقاء، وصلاح، وقوة، وأمانة أعضاء اللجنة نفسها، ففاقد الشيء لا يُعْطِيه، وأن يذهب إلى الجلسة ليس في قلبه إلا نطق كلمة الحق، حتى تَنَالَ التوفيق من الله -عز وجل-؛ قال -تعالى-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء: 35).
ولعظم وأهمية وقدر المصالحة بين الناس، أن الشريعة أجازت للمصلح أن يقول قولًا يسعى فيه للخير حتى لو كان فيه نوع من الكذب، كما جاء في صحيح البخاري من حديث أم كلثوم بنت عقبة -رضي الله عنها- أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا) (متفق عليه).
هنيئًا لمن شارك في هذا العمل الطيب بكسب الحسنات ورفع الدرجات، وساهم في إسعاد المجتمع وإدخال الفرحة في بيوتهم وأزال عنهم الحقد والحسد، وبث فيهم العفو والتسامح؛ قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 10)، وهذا يُبَيِّن أهمية وقدر وضرورة هذه الجلسات لما فيها من أهمية كبرى في الإصلاح بين الناس، وهذا غالبًا يكون في الاختلاف بينهم أو الإعراض والتخاصم، وقطع الأرحام، فيتم التراضي بين الطرفين، وتقريب وجهات النظر. وإما أن تكون الجلسات لرد الحقوق إلى أهلها، أو التحاكم في قضايا مُهِمَّة كالتَعَدِّي على الآخرين أو القتل مثلًا، لكن لكل فكرة وأسلوب من أساليب هذه الجلسات سلبياته وإيجابياته، وسنتعرف على ذلك حتى نبتعد ونحذر ونجتنب السلبيات، ونحافظ ونُنَمِّي الإيجابيات، ونذكر أولًا بعض الإيجابيات والآثار الطيبة وهي كالآتي:
الإيجابيات:
تحقيق مبدأ "انصر أخاك" ظالمًا بحجبه ومنعه عن الظلم، أو مظلومًا برد حقه، كما جاء في صحيح البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا). قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: (تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ) (متفق عليه).
وإقامة العدل في الأرض، فتُنْشَر في مجتمعاتنا المحبة والترابط. قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 58).
والأجر العظيم من الله -عز وجل-، فهو بمثابة الصدقة، ولما لا وهو يَعْدِل بين الناس. فقد جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) (متفق عليه).
السلبيات:
الحكم بالهوى، لا سيما إن كان تابعًا لأحد الطرفين، وهذه من السلبيات التي تُغْضِب الله -سبحانه وتعالى- وتُضَيِّع الحقوق، فلقد أمر الله داود -عليه السلام- أمرًا خاصًا له وفي الوقت نفسه عامًا لكل من يحكم بين الناس بعدم اتباع الهوى فيكون سببًا في الضلال والهلاك، قال -تعالى-: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص: 26).
الحكم بأحكام الجاهلية التي لا تُوافِق شرع الله -عز وجل-، وهذا لا شك مخالف لعقيدة المسلم الذي ارتضى شريعة الإسلام مُمَثَّلَة في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- دستورًا ومنهجًا، قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50).
وأخيرًا:
جلسات الصلح والتحكيم من أهم الأفكار التي يحتاجها المجتمع لمنع الفرقة والتنازع، إذا التزمت بالضوابط، والانقياد لحكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال -تعالى-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65).