الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 23 يوليه 2025 - 28 محرم 1447هـ

الوصايا النبوية (28) (الوصية بدعاء تفريج الكرب وصلاح الحال) (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة -رضي الله عنها-: (مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ؟ أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ) (رواه النسائي في الكبرى، والحاكم في المستدرك، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).

المعنى الإجمالي للوصية:

هذه وصية نبوية بالتزام هذا الدعاء العظيم بصلاح الحال صباحًا ومساءً، بل في عموم يومه وحاله؛ لا سيما عند الكرب والمحن والشدائد. وقد جاء برواية أخرى: (دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) (رواه أحمد، وأبو داود، وحسنه الألباني في صحيح الجامع). وقد اشتمل على جمل عظيمة تدل على عظيم استسلام وافتقار العبد، واعترافه بأنه لا مغيث له في شدته ومحنته إلا الله.

مجمل شأن الإنسان:

شأن الإنسان يتلخص في الأمور الثلاث العظيمة (الدين - الدنيا - الآخرة)، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ) (رواه مسلم).

وكل الناس، مؤمنهم وكافرهم، يحتاجون إلى صلاح هذه الثلاث، فنقف مع كل منها وقفة، ثم نقف على ما جاء في الدعاء.

الشأن الأول: الدِّين:

- هو أعظم ما يملك المسلم، فهو الذي خُلِق من أجله: قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (سورة الذاريات: 56).

- وهو الذي سيُحاسَب عليه من أول لحظة يُفارِق بها الدنيا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر قَبْضَ روح المؤمن فقال: (يَأْتِيهِ آتٍ، يَعْنِي فِي قَبْرِهِ، فَيَقُولُ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ ومَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-، قال: فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ: مَا رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَهِيَ آخِرُ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ اللَّهُ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) (سورة إبراهيم: 27)، فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْتَ) (رواه البخاري ومسلم).

- فعندما يُصلح الله لك دينك؛ فهذا يعني أنه سيهديك إلى الصراط المستقيم، ويجعل دينك سَلِيمًا من الشبهات والشهوات (وهذا يشمل صلاح العقيدة، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات): عن سعد بن هشام بن عامر -رضي الله عنه-، قال: "دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، فَقُلْنَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، تَقْرَأُونَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَتْ: اقْرَأْ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (سورة المؤمنون: 1)، قَالَ: فَقَرَأْتُ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إِلَى (لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) (سورة المؤمنون: 1-5)، قَالَتْ: هَكَذَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-" (أخرجه أحمد، والنسائي بلفظ مطول).

- صلاح الدين هو أساس الفلاح والسعادة في الشأنين الآخرين (الدنيا والآخرة): قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (فصلت: 30-31).

الشأن الثاني: الدنيا:

- الأصل فيها أنها دار امتحان وابتلاء للفوز بالجنة والنجاة من النار: قال -تعالى-: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 123-124).

- أباح الله لنا منها الطيبات الكثيرة (مال - زوجات - أولاد - صحة - عشيرة - قوة - جمال - ...): (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162).

- أكثر الناس فَسَدَتْ دنياهم بسبب كثرة الطيبات، فضيعوا دينهم وهم يتصورون أن ذلك صلاح الدنيا: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا . وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) (الكهف: 34-36). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

- صلاح الدنيا مقرون بصلاح الدين: قال -تعالى-: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (سورة الجن: 16).

- وإلا فأسعد الناس في الدنيا من صَلَح لهم دينهم، ولو حُرِمُوا طيبات الدنيا: مِنْ كلمات ابن تيمية -رحمه الله- الذهبية لما وُضِعَ في السجن: "مَا يَصْنَعُ أَعْدَائِي بِي؟ أَنَا جَنَّتِي وَبُسْتَانِي فِي صَدْرِي، إِنْ رُحْتُ فَهِيَ مَعِي لَا تُفَارِقُنِي، إِنْ حبسي خَلْوَة، وقتلي شَهَادَة، وَإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سِيَاحَةٌ" (الوابل الصيب)(1).

الشأن الثالث: الآخرة:

- أكثر الناس نسوا هذا الشأن: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر: 19)(2).

- وأفجأتهم ملائكة الموت عند رؤوسهم: قال -تعالى-: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ . حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) (التكاثر: 1-2)، وقال: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (سورة المؤمنون: 99-100).

- بل سيُفْجَأُون بالنار، وسينسون كل نعيم من طيبات الدنيا التي أفسدت الشأنين العظيمين (الدين والآخرة): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ) (رواه مسلم).

- بخلاف من أصلح الله لهم شأنهم كله، فعاشوا في الدنيا بالدين ليضمنوا صلاح الآخرة، ولو فقدوا متاع الدنيا كله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ) (رواه مسلم).

وقفة مع ما تضمنه الدعاء:

- (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ...): توسل إلى الله -تعالى- بأسمائه وصفاته؛ فهو -سبحانه- الحي القيوم؛ قال بعض أهل العلم -وهو اختيار الحافظ ابن القيم رحمه الله-: "الْحَيَّ، الْقَيُّومَ هما الاسم الأعظم".

فالْحَيُّ هو: ذو الحياة الكاملة من كل وجه، ليست مسبوقة بعدم، ولا يلحقها عدم، ولا يعتريها نقص؛ قال -تعالى-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) (الفرقان: 58).

والْقَيُّومُ هو: القائم بنفسه، القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم، فلو تركهم عنهم طرفة عين لكان ذلك هلاكًا مُحَقَّقًا لهم، عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كَرَبَهُ أمر قال: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وقوله: (وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ) أي: لا تتركني لضعفي وعجزي لحظة واحدة، بل أصحبني العافية دائمًا، وأعني بقوتك وقدرتك؛ فهو اعتراف بالفقر التام إليه -سبحانه-، والاستسلام الكامل لغناه عز وجل(3)؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ) ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ) (رواه مسلم).

خاتمة:

- وصية عظيمة في كلمات يسيرة، يعبِّر بها العبد عن صلته الدائمة بربه الذي ليس له غنى عنه طرفة عين.

- وصية جامعة بأعظم ما يطلبه الإنسان من المَلِك العَلَّام: صلاح شأنه كله (دينه، ودنياه، وآخرته).

فاللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تعني هذه العبارة: أن السعادة الداخلية للإنسان وراحة قلبه لا تتأثران بظروفه الخارجية أو بأفعال أعدائه؛ فالسعادة الحقيقية تكمن في الإيمان والتقوى، وهما موجودتان في قلب المؤمن، ولا يمكن لأحدٍ أن يحرمه منهما.

(2) التفسير: ولا تكونوا -أيها المؤمنون- كالذين تركوا أداء حقِّ الله الذي أوجبه عليهم، فأنساهم بسبب ذلك حظوظ أنفسهم من الخيرات التي تُنْجِيهِم من عذاب يوم القيامة. (التفسير الميسر).

(3) إذا تُرِكَ الإنسان لنفسه، وتخلَّى الله -تعالى- عنه، بدأ التَّمَزُّق ينتابه من كل ناحية، فهو بحاجة إلى مثل هذه الألطاف الربانية التي تصل إليه من طريق رحمة الله -تبارك وتعالى-. وإذا أردت أن تَعْرِفَ قدرَ طرفة العين، فانظر إلى مريض الجلطة، في لحظة يتجمد هذا الدم في عرق، ثم بعد ذلك تتلاشى كل هذه القدرات والإمكانات العقلية والبدنية، فيصبح هذا الإنسان القوي المفتول العضلات الذي يهز الأرض إذا مشى في لحظة وقد انتهى كل شيء! فالخلق ضعفاء.