الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 14 يناير 2025 - 14 رجب 1446هـ

في ذكرى سقوط الأندلس.. الخيانة وأثرها على الأمة (2) دولة الإسلام في الأندلس أنموذجًا

كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

نستكمل في هذا المقال صورًا لخيانة بعض أبناء الأمة للأمة، وأثر ذلك على الأمة الإسلامية.

المعتمد بن عبَّاد، وعبد الله بن بلكين:

وشخصية المعتمد بن عباد حار فيها المؤرخون، حتى وصفه بعضهم "بالمجاهد الخائن"، فقد كان شجاعًا كريمًا، وكان أيضًا خائنًا للمسلمين في بعض الأوقات.

قال عنه ابن كثير -رحمه الله-: "كان المعتمد هذا موصوفًا بالكرم والأدب والحلم، وحسن السيرة والعشرة والإحسان إلى الرعية، والرفق بهم، حزن الناس عليه، وقال في مصابه الشعراء فأكثروا" (البداية والنهاية).

وقال الذهبي -رحمه الله-: "كان من محاسن الدنيا جودًا، وشجاعة، وسؤددًا، وفصاحة، وأدبًا" (تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير والأعلام).

وتبدأ القصة هنا بعصر ملوك الطوائف (422 - 479 هـ / 1031 - 1086 م)، وهذا العهد سبقته حالة من الفوضى، وقد استمر عصر ملوك الطوائف حتى دخول المرابطين بلاد الأندلسَ، حيث انقسمت البلاد في عصر ملوك الطوائف إلى اثنتين وعشرين دويلة متناحرة، فقويت شوكة النصارى وسيطروا على بعض المدن، مما استدعى دخول المرابطين الأندلسَ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

فبعد تقسيم الأندلس في عصر ملوك الطوائف وتفكك قوة الدولة، وضعف وحدة المسلمين، استطاع النصارى الإسبان أن يسيطروا على بعض المدن الأندلسية، فاستغاث بعض ملوك الطوائف، وعلى رأسهم: المعتمد بن عبَّاد أمير مدينة إشبيلية بيوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين بالمغرب، فتحرك المرابطون نحو الأندلس دفاعًا عن ديار المسلمين (الذخيرة لابن بسام).

لقد عبر المرابطون من المغرب إلى الأندلس مرتين بدعوة من أهلها وعلمائها وبعض أمرائها، فدافعوا عن مدن الأندلس، وخاضوا عدة حروب ضد النصارى، وكان يوسف بن تاشفين يأمل في صلاح أحوال ملوك الطوائف، وهو الأمر الذي لم يحدث، بل أصبحت الأندلس تعاني من الهجمات النصرانية المختلفة، ومن ظلم ملوك الطوائف، وإرهاق كواهل الرعية بالضرائب الباهظة، حتى نادى كثيرٌ من الفقهاء والعلماء بخلع ملوك الطوائف وضم الأندلس إلى سلطان يوسف بن تاشفين، ومن هؤلاء: الإمام الغزالي، وأبو بكر الطرطوشي، وغيرهما.

ولذا جاء العبور الثالث بقرار اتخذه يوسف بن تاشفين، ولم يكن بدعوة من ملوك الطوائف.

حشد يوسف جيشه عند مدينة سَبتة، وعبر المضيق نحو الأندلس، وبدأ بجهاد النصارى، فغزا طليطلة، ولم يكن بين المعتمد وبين المرابطين تعاون خلال تلك المرحلة، كما حاصر قشتالة، وزحف نحو غرناطة، وعندئذ عقد صاحبها عبد الله بن بلكين اتفاقية سرية مع ألفونسو السادس من أجل الدفاع عن المدينة، ودفع الجزية للنصارى، ثم حاصر جيش المرابطين غرناطة، واستمر الحصار نحو شهر، ثم استسلم أهلها، ودخلها المرابطون في شهر رجب عام (483 هـ / 1090 م).

واستطاع المرابطون أن يسيطروا على مالقة، وقُبض على صاحبها تميم بن بلكين، أخي عبد الله بن بلكين، عندئذٍ شعر المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية بخطورة الموقف، وعلم أن الدور على إشبيلية، فعزم على الدفاع عن مملكته، حيث عمل على إقامة التحصينات والأسوار، ثم ساءت العلاقة بينه وبين يوسف، وكثرت بينهما الوقيعة، وقد دعا أمير المسلمين يوسفُ المعتمدَ إلى لقائه فأبى، فطلب منه أن يتبع أحكام الشرع، وأن يلغي الضرائب الجائرة، وأن يلتزم الرباط ومجاهدة النصارى، فامتنع المعتمد عن الإجابة.

أراد المعتمد أن يواجه تقدم المرابطين بعد أن شعر بأن الدور آت على إشبيلية كم ذكرنا، فرأى أن يتعاون مع ألفونسو السادس من أجل الدفاع عن المدينة، كما دعا ملوك الطوائف للتحالف من أجل التصدي للمرابطين، ولكن لم ينفعه التحالف مع الصليبيين، وتمت السيطرة على إشبيلية بعد حصار دام أربعة أشهر، واستسلم المعتمد في النهاية، وقُتل ولده مالك الملقب بفخر الدولة أثناء القتال، وكذلك قتل ابنه الراضي (دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان).

وهكذا تعاون عبد الله بن بلكين صاحب غرناطة مع ألفونسو السادس، وعقد معه اتفاقية لمواجهة المسلمين المرابطين، ودفع له الجزية، وفعل مثله المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية.

وقد كان بعض ملوك الطوائف خلال الصراعات الداخلية بينهم؛ يستعينون ببعض النصارى ضد إخوانهم المسلمين! بل وكانوا يدفعون الجزية لألفونسو السادس، من أجل أن يحافظ لهم على الحكم في بلادهم، بل وربما كان يسبهم أحيانًا في وجوههم؛ وهم يرضون بهذا الذل مقابل البقاء على عروشهم، وفي النهاية سقطوا جميعًا، ودخل المرابطون وسيطروا على البلاد.

وقد علَّق الدكتور عبد الرحمن الحجي على هؤلاء الحُكَّام فقال: "وهكذا وجدت في الأندلس أوضاع يحكمها أمراء اتصف عدد منهم بصفات الأثرة والغدر، هانت لديهم معه مصالح الأمة، وتُركت دون مصالحهم الذاتية، باعوا أمتهم للعدو المتربص ثمنًا لبقائهم في السُّلطة، ولقد أصاب الأمة من الضياع بقدر ما ضيعوا من الحظ الخُلقي المسلم، انحرف هؤلاء المسئولون عن النهج الحنيف، الذي به كانت الأندلس وحضارته" (التاريخ الأندلسي).

وعلَّق ابن حزم الأندلسي -رحمه الله- على أحوال بعض ملوك الطوائف فقال: "والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرب المُسْلِمِين، لعن الله جميعهم، وسلط عليهم سيفًا من سيوفه" (رسائل ابن حزم الأندلسي).

ولا شك أن تلك التحالفات المشبوهة، كان لها أثرها السيئ على الدولة عبر مراحلها المختلفة، وتسببت في وقوع الضعف والانهيار، ومن ثم السقوط في نهاية المطاف.

فعلى الأمة أن تعي هذا الدرس، وأن تحقق مفهوم الولاء والبراء، وأن تحافظ على عقيدتها، ووحدتها، وألا تُطبع علاقاتها مع أعدائها.

والله المستعان.