الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (26)
كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد سَعَى العُقَابُ في التَّعْرِيفِ بِمَنْهَجِهِ في التَّذَوُّقِ، والتَّأْرِيخِ له، وتَقْرِيبِهِ إلى عُقُولِ النَّاشِئَةِ وجَمْهَرَةِ المُتَعَلِّمِينَ والمُثَقَّفِينَ، وكان هذا دَأْبَهُ في كَثِيرٍ مِمَّا كان يَنْشُرُهُ مِن مَقَالَاتٍ في المَجَلَّاتِ والصُّحُفِ السَّيَّارةِ التي يَقْرَأُهَا جُمْهُورٌ مُتَفَاوِتُ الثَّقَافَةِ، مُخْتَلِفُ المَشَارِبِ، مُتَعَدِّدُ التَّخَصُّصِ.
ومِمَّا ذَكَرَهُ في هذا المَجَالِ، في مَقَالَةٍ نَشَرَهَا في مَجَلَّةِ "الثَّقَافَةِ" (السَّنة السَّادسة، العدد 63 ديسمبر سنة 1978، 4 – 17)، عُنْوَانُهَا: "المُتَنَبِّي لَيْتَنِي ما عَرَفْتُهُ (3)" قَوْلُهُ: (تَارِيخُ "التَّذَوُّقِ" عِنْدِي: أنتَ مُتَذَوِّقٌ لِلشِّعْرِ، وأنا مُتَذَوِّقٌ لِلشِّعْرِ، وآلافٌ مُؤَلَّفَةٌ مِن المُثَقَّفِينَ وغَيْرِهِمْ -قديمًا وحديثًا- مُتَذَوِّقُونَ لِلشِّعْرِ، أُوه، نَسِيتُ، وحتَّى لا أُعَدَّ مُتَجَنِّيًا أو مُقَصِّرًا، والدُّكتور طه حسين أيضًا مُتَذَوِّقٌ لِلشِّعْرِ؛ و"التَّذَوُّقُ" عند جميعِنا قائمٌ في النَّفْسِ، ولا يَجْمَعُ بيننا في الحقيقةِ إلا هذا اللَّفْظُ "التَّذَوُّق".
أمَّا وسائلُ "التَّذَوُّقِ" وأسبابُه وطَرائقُه وأساليبُه، فمُختلِفةٌ بيننا اختلافًا يكاد يَبلُغُ مِن الكثرةِ عددَ المُتَذَوِّقِين، ولا يستطيعُ أحدُنا أن يُلزِمَ الآخَرَ بما يَجِدُهُ قائمًا في نَفْسِهِ مِن وسائلِ "التَّذَوُّقِ" وأسبابِه وطَرائقِه وأساليبِه، هذا مستحيلٌ -إن شاء الله-، وكُلُّ ما يُمكِنُ أن يَكُونَ، أن يَقَعَ مِن جميعِنا، أو مِن بعضِنا، اتِّفَاقٌ على مَظْهَرٍ أو أكثرَ مِن مَظَاهِرِ "التَّذَوُّقِ"، وعلى غَيْرِ تَوَاطُؤٍ مِنَّا أو مِن بعضِنا؛ أمَّا الاتِّفَاقُ على طبيعةِ "التَّذَوُّقِ" وعلى وسائلِه ودرجاتِه وأبعادِه، اتِّفَاقًا قاطعًا لِكُلِّ شُبْهَةِ اختلافٍ أو تَبَايُنٍ أو تَضَادٍّ، فهذا ما لا يَكُونُ البَتَّة.
وهذا تفسيرٌ آخَرُ يَزِيدُ ما قُلْتُهُ قديمًا وُضُوحًا، إذ قُلتُ في المَقالتَينِ السَّالفتَينِ: "إنَّ التَّذَوُّقَ معنًى عامٌّ مُشتركُ الدَّلالةِ بين النَّاسِ جميعًا، وهو يَقِلُّ ويَكْثُرُ، ويَعْلُو ويَسْفُلُ، ويَصْقُلُ ويَصْدَأُ، ويَجُودُ ويَفْسُدُ، ولكنَّه حاسَّةٌ لا غِنَى عنها لِلإنسان"، وقُلتُ أيضًا: "إنَّ التَّذَوُّقَ لفظٌ مُبهَمٌ مُجمَلُ الدَّلالةِ، ولِكُلِّ حَيٍّ عاقلٍ مُدْرِكٍ منه نَصِيبٌ يَقِلُّ ويَكْثُرُ، ويَحْضُرُ في شيءٍ ويَتَخَلَّفُ في غَيْرِهِ، وتَصْقُلُهُ الأيَّامُ والدُّرْبَةُ، وتَرْهَنُهُ جَوْدَةُ المعرفةِ والصَّبْرُ على الفَهْمِ والمُجَاهَدَةُ في حُسْنِ الإِدْرَاك".
وقد فَرَغْتُ في المقالةِ السَّالفةِ مِن الدَّلالةِ على أنَّ لفظَ "التَّذَوُّقِ"، مَصْدَرٌ دَالٌّ على حَدَثٍ (أيْ فِعْلٍ) مُبْهَمٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ، ولا مُتَمَيِّزٍ، قَابِلٍ لِلتَّعَدُّدِ والاختلافِ والتَّنَوُّعِ، أيْ أنَّه، كما قُلتُ، كسائرِ أخواتِه مِن الأحداثِ المُبْهَمَةِ، هي ذاتُ نَمَاءٍ سَابِغٍ مُتَوَهِّجٍ، وذاتُ غِنًى مُفْعَمٍ، وذاتُ ثَرَاءٍ مَكْنُوزٍ، وأنَّها أيضًا ذاتُ خَطَرٍ مَرْهُوبٍ، لِمَا فيها مِن قُوَّةٍ غَامِضَةٍ تَجْعَلُهَا قَادِرَةً قُدْرَةً مُطْلَقَةً على تَضْلِيلِ السَّامِعِ والمُتَكَلِّم.
وقد نشأتُ أنا في زمنٍ كانت فيه هذه اللَّفظةُ "التَّذَوُّقُ" شائعةً كثيرةَ الاستعمالِ في الصُّحُفِ والمَجَلَّاتِ، فتَلَقَّنْتُها تَلَقُّنًا وأنا في أَوَّلِ الصِّبَا وخَفَّتْ على اللِّسَانِ ونَشَبَتْ فيه كسائرِ ما نَتَلَقَّنُهُ مع الصِّغَر، فكان إبهامُها وقَبولُها لِلتَّعَدُّدِ والتَّنَوُّعِ بِنَمائِها وغِناها وثَرائِها يُثِيرُ في النَّفْسِ لَذَّةً ونَشْوَةً واهتزازًا ونحن نُحَاوِلُ أن "نَتَذَوَّقَ" الشِّعْرَ والنَّثْرَ، ثُمَّ سَائِرَ الفُنُونِ الدُّنْيَا) (انتهى).
ونُكْمِلُ كلامَ العُقَابِ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
واللهُ المُسْتَعَانُ.