كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا) (متفق عليه).
مجمل الوصية:
أمر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في هذه الوصية بمُعَاهَدَةِ القرآنِ والمواظبةِ على تِلَاوَتِهِ كي لا يَنْسَاهُ المسلمُ بعد أن كان حَافِظًا له في صَدْرِهِ، وأكَّد ذلك بحَلِفِهِ -صلى الله عليه وسلم- على أنَّ القرآنَ أشدُّ تَخَلُّصًا وذَهَابًا من الصُّدُورِ من الإبلِ المَعْقُولَةِ وهي المَشْدُودَةُ بحَبْلٍ في وَسَطِ الذِّرَاعِ، إن تَعَاهَدَهَا الإنسانُ أمْسَكَهَا وإن أطْلَقَهَا ذَهَبَتْ وضَاعَتْ(1).
فضل القرآن:
- القرآنُ هو كلامُ اللهِ، أنْزَلَهُ على نَبِيِّهِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: وهو كتابُ الإسلامِ الخَالِدِ، ومُعْجِزَتُهُ الكُبْرَى، فيه تَقْوِيمٌ للسُّلُوكِ، وتَنْظِيمٌ للحَيَاةِ، من اسْتَمْسَكَ به فقد اسْتَمْسَكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انْفِصَامَ لها، ومن أعْرَضَ عنه وطَلَبَ الهُدَى في غَيْرِهِ فقد ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا: قال -تعالى-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (إبراهيم: 1)(2).
- ولقد تَعَبَّدَنَا اللهُ بتِلَاوَتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وأطْرَافَ النَّهَارِ، ووَعَدَنَا على ذلك الأجْرَ العَظِيمَ: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر: 29)، وقال -تعالى-: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) (الإسراء: 106). وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ آلم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- ويَكْتَمِلُ الفَضْلُ والأجْرُ لمن جَمَعَ بين القِرَاءَةِ والعَمَلِ: قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- تَكَفَّلَ اللهُ لمن قَرَأَ القرآنَ وعَمِلَ بما فيه ألَّا يَضِلَّ في الدُّنْيَا ولا يَشْقَى في الآخِرَةِ، ثم قرأ قوله -تعالى-: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه: 123-126).
فضل حُفَّاظِ القرآن:
- هَنِيئًا لكم حُفَّاظَ كتابِ اللهِ الكَرِيمِ، هَنِيئًا لكم هذا الأجْرَ العَظِيمَ، والثَّوَابَ الجَزِيلَ: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) (أخرجه مسلم).
- فأنتم أهلُ اللهِ وخَاصَّتُهُ، أنتم خَيْرُ الناسِ للناسِ، أنتم أحَقُّ الناسِ بالإجْلَالِ والإكْرَامِ: فعن أنسٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ)، قالوا: يا رسولَ اللهِ من هم؟ قال: (هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ -تعالى- إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) (رواه البخاري).
- أنتم يا أهلَ القرآنِ أعْلَى الناسِ مَنْزِلَةً في الدُّنْيَا والآخِرَةِ: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ) (أخرجه مسلم). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ) (متفق عليه). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً) (أخرجه الترمذي، وحسنه الألباني).
- بل من عَظِيمِ بَرَكَةِ القرآنِ، أن فَضْلَ الحُفَّاظِ يَتَعَدَّى إلى كل من أعَانَهُمْ على حِفْظِهِ: كما روي عن رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا" (رواه أبو داود).
الوصية النبوية بتعاهد القرآن:
- وصيةُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بتَعَاهُدِ القرآنِ بشكلٍ دَائِمٍ ومُسْتَمِرٍّ لأمَّتِهِ عَامَّةً، ولحَفَظَةِ كتابِ اللهِ خَاصَّةً: قال -صلى الله عليه وسلم-: (تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا) (أخرجه مسلم).
- يُسْتَحَبُّ للمسلمِ خَتْمُ القرآنِ في كل شَهْرٍ، إلا أن يَجِدَ المسلمُ من نَفْسِهِ نَشَاطًا فلْيَخْتِمْ كل أُسْبُوعٍ: عن عبدِ الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: قال لي رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ)، قال: قلتُ: إنِّي أجِدُ قُوَّةً، قال: (فَاقْرَأْهُ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةٍ)، قال: قلتُ: إنِّي أجِدُ قُوَّةً، قال: (فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ) (رواه البخاري). وقال عبدُ الله بن أحمد بن حنبل: "كان أبي يَخْتِمُ القرآنَ في النَّهَارِ في كل أُسْبُوعٍ، يَقْرَأُ كل يَوْمٍ سَبْعًا لا يَكَادُ يَتْرُكُهُ نَظَرًا".
- وأوْصَى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جميعَ المسلمينَ رِجَالًا ونِسَاءً، بحِفْظِ كتابِ اللهِ -تعالى- ما اسْتَطَاعُوا لذلك سَبِيلًا، وحَذَّرَ من هَجْرَانِهِ: قال -تعالى-: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان: 30). وروى الإمامُ أحمدُ -رضي الله عنه- من حديث سَمُرَةَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رأى رَجُلًا مُسْتَلْقِيًا على قَفَاهُ، ورَجُلًا قَائِمًا بيَدِهِ فَهْرٌ أو صَخْرَةٌ، فيَشْدَخُ بها رَأْسَهُ، فيَتَدَهْدَهُ، فإذا ذَهَبَ ليَأْخُذَهُ عَادَ رَأْسُهُ كما كان، فيَصْنَعُ به مِثْلَ ذلك، فسَأَلَ عنه، فقيل له: رَجُلٌ أتَاهُ اللهُ القرآنَ فنَامَ عنه باللَّيْلِ ولم يَعْمَلْ به بالنَّهَارِ، فهو يُفْعَلُ به ذلك إلى يَوْمِ القِيَامَةِ.
- ومن أشَدِّ أنْوَاعِ الهَجْرِ للقرآنِ نِسْيَانُهُ بسَبَبِ الانْشِغَالِ بالدُّنْيَا: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُوتِيَهَا الرَّجُلُ ثُمَّ نَسِيَهَا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
خاتمة:
- كثيرٌ هم الذين هَجَرُوا القرآنَ، وانْشَغَلُوا عنه بالأمْوَالِ والوَظَائِفِ والأهْلِ والخِلَّانِ، فأيْنَ هم من وَصِيَّةِ سَيِّدِ الأنَامِ؟: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا).
- وكثيرٌ هم الذين هَجَرُوا القرآنَ، وانْشَغَلُوا عنه بالدُّونِ من الأمُورِ والأحْوَالِ: (الجَرَائِدِ والمَجَلَّاتِ وصَفَحَاتِ ومَوَاقِعِ شَبَكَةِ العَنْكَبُوتِ)؛ فأيْنَ هم يَوْمَ القِيَامَةِ من سُؤَالِ الجَلِيلِ المُتَعَالِ؟! قال عثمانُ -رضي الله عنه-: "لو طَهُرَتْ قُلُوبُكم ما شَبِعْتُمْ من كَلامِ رَبِّكم" (رواه أحمد في زوائد الزهد).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عَقْلُ الإبلِ: هو أن يُوضَعَ فيها رِبَاطٌ في وَسَطِ الذِّرَاعِ من يَدِهَا، فيُضَمُّ ذلك إلى العَضُدِ إذا بَرَكَ البَعِيرُ، ورُبِطَ ذلك المَحَلُّ منه، ثم تُرِكَ، فعند ذلك لا يَسْتَطِيعُ أن يَنْهَضَ، ولا يَسْتَطِيعُ أن يَقُومَ، ولا أن يَنْطَلِقَ ويَنْفَلِتَ من صَاحِبِهِ، ولكنها تُحَاوِلُ الانْفِلَاتَ؛ ولذلك تَحْتَاجُ إلى تَعَاهُدٍ، فلا يُتْرَكُ هذا البَعِيرُ مُدَّةً طَوِيلَةً، في غَفْلَةٍ عنه، فإنه قد يَنْفَلِتُ، ثم بعد ذلك يَنْطَلِقُ، فلا يُوقَفُ له على أثَرٍ، فيَتَخَلَّصُ.
(2) روى عن رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، هُوَ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، فَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، هُوَ الَّذِي مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (أخرجه الدارمي).