كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
- الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
- من مكارم الأخلاق المنشودة "الاحتساب": قال -تعالى- عن قيل أهل الاحتساب: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) (الإنسان: 9-10).
- المقصود بالاحتساب: هو احتساب الأجر وثواب الأعمال الصالحة، وما يصيبه في الدنيا من البلايا، عند الله يوم الحساب، ومنه قول النبي اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ) (متفق عليه)، وقوله في العزاء لأهل الميت: (فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) (متفق عليه)(1).
- صور بسيطة من الاحتساب: (من يرفع الأذى عن الطريق احتسابًا، لا نظافة فحسب - من يسعى في قضاء حاجة مسلم احتسابًا، لا مجرد شهامة أو رياء - من يحضر جنازة احتسابًا، لا عرفًا أو مجاملة - من يمشى المسافات البعيدة غير الواجبة عليه لحضور خطبة جيدة أو درس علم - من يدعو الى الله ويصبر على مشاق الطريق لا يريد أجرًا دنيويًّا ولا علوًّا في الأرض - من يمشى من بيته إلى المسجد المسافة البعيدة مع مرضه ومشقة ذلك عليه احتسابًا - خدمة الزوجة لزوجها احتسابا لا عادة - قصة تاجر الحبوب الذى كان ينهى عماله عن جمع الحبوب الملقاة على الأرض أثناء تنزيلها إلى المخازن لتأكلها الطير ثوابًا من الله). وما أحسن كلمة "ثواب" التي يجيب بها بعض الناس عندما يسأل عن سبب فعله للخير.
- حاجتنا إلى خلق الاحتساب في زمان قلَّ فيه المحتسبون، وكثر فيه العاملون الطالبون لأجور الدنيا.
(1) شواهد الاحتساب في الكتاب والسنة:
- بيَّن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الاحتساب هو الفيصل في قبول الأعمال عند الله -تعالى-: فعن أَبِي قَتَادَةَ: أن رَجُلا َقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ) (رواه مسلم).
- وبيَّن الحق -تبارك وتعالى- أن الاحتساب هو الفارق العظيم بين الأعمال المشتركة: قال -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء:104).
- وبين -عز وجل- أن الأعمال الصالحة ليست وحدها تكتب، بل آثارها كذلك إذا احتسبها أصحابها: قال -تعالى-: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) (يس:12). قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كانت منازل الأنصار بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد، فنزلت: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)، فقالوا: نثبت مكاننا، فقال لهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا بَنِي سَلِمَةَ، أَلَا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ) (رواه البخاري).
- الصالحون لا يكتفون بالآثار للعبادات، بل يحتسبون العادات طاعات بالاحتساب: قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "أما أنا فأنامُ وأقومُ، فأحتَسِبُ نوْمتي كما أحتَسِبُ قوْمتي" (رواه البخاري). وقال سفيان بن زبيد: "يسرني أن يكون لي في كل شيء نيَّة حتى في الأكل والنوم". وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ) (متفق عليه).
- وفي الجملة: فالمؤمن الناصح من يحتسب حياته كلها لله (المال - المنصب - المعاملات - الولد - الزواج - العمل - الحب والبغض - ...): (?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162، 163).
(2) نماذج من المحتسبين:
- المسلم الذي زار أخاه في الله، مع تكبد نفقات السفر ونحوه، لا يريد من ذلك مصلحة دنيوية، ولكن احتسابًا للأجر من الله: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: عن النبي -صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أنَّ رَجُلًا زارَ أخًا له في قَرْيَةٍ أُخْرَى، فأرْصَدَ اللَّهُ له علَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أتَى عليه، قالَ: أيْنَ تُرِيدُ؟ قالَ: أُرِيدُ أخًا لي في هذِه القَرْيَةِ، قالَ: هلْ لكَ عليه مِن نِعْمَةٍ تَرُبُّها؟ قالَ: لا، غيرَ أنِّي أحْبَبْتُهُ في اللهِ -عزَّ وجلَّ-، قالَ: فإنِّي رَسولُ اللهِ إلَيْكَ بأنَّ اللَّهَ قدْ أحَبَّكَ كما أحْبَبْتَهُ فِيهِ) (رواه مسلم).
- المهاجرون والأنصار.. سيرتهم وحياتهم كانت احتسابًا لله: قال -تعالى- فيهم: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:7-9).
صور من احتسابهم:
- مصعب بن عمير يترك الجاه والثراء والأهل احتسابًا لما عند الله: قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "كان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة مع أبويه، ثُمَّ لقد رأيته جهد في الإسلام جهداً شديداً، حتّى لقد رأيت جلده يسقط كما يسقط جلد الحية". وقال عنه البراء بن عازب: "أول المهاجرين مصعب بن عمير".
وقال خبَّاب بن الأرت: "هاجرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سبيل الله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم: مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر، ووقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند مصعب بن عمير وقال: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ثم ألقى نظرة على بردته التي كفن بها وقال: لقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. ثم أنت شعث الرأس في بردة" (سيرة ابن هشام).
- عبد الله المزني -ذو البجادين- يترك الأهل والمال احتسابًا لما عند الله: كان ينازع إلى الإسلام، فيمنعه قومه من ذلك، ويضيقون عليه، حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره، والبجاد: الكساء الغليظ الجافي، فهرب منهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما كان قريبًا منه، شق بجاده باثنين، فاتزر بواحد، واشتمل بالآخر، ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: ذو البجادين لذلك. وقال ابن هشام بسنده في السيرة عن وفاته: "إن عبد الله بن مسعود كان يحدث، قال: قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، قال: فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: أدنيا إلي أخاكما، فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه قال: اللهم إني أمسيت راضيا عنه، فارض عنه. قال: وعبد الله بن مسعود يقول: يا ليتني كنت صاحب الحفرة!".
خاتمة:
- الاحتساب سلوى قلوب المؤمنين في هذه الدنيا، فلولا الاحتساب ما صبر المؤمنون على البلاء والآلام في هذه الحياة الدنيا: قال -تعالى- عنهم: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا . فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا . وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا . مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) (الإنسان: 9-13)، وقال: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 156، 157).
فاللهم ارزقنا نعمة الاحتساب في كلِّ أعمالنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) احتسابًا: ناويًا العمل لله وانتظارًا لثوابه من الله، ولتحتسب: ناويًا صبرك لله منتظرًا منه الأجر، فالنية هي التي عليها مدار الأعمال، وهي الفاصلة بينها.
(2) تنبيه: لا يشترط أن يكون العمل الخالي من الاحتساب رياء. (مثاله: أخذ الطبيب الأجرة الدنيوية من المريض الفقير).