الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 09 أكتوبر 2024 - 6 ربيع الثاني 1446هـ

رسائل مبسطة في العقيدة (2) أصل الدِّين

كتبه/ أحمد شهاب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد سبق وقلنا: إن وجود الله -بل وكماله- ثابت بالعقل والفطرة والشرع؛ فلا ينكره إلا مَن انتكست فطرته فعميت عن ضوء الشمس في رابعة النهار.

وليس يصح في الأذهان شيء                إذا احـتـاج الـنهـار إلى دلـيـل

وهي أدلة كثيرة -بفضل الله- والقرآن تكرر فيه مساران رئيسيان:

1- المسار الأول: التأكيد على تلك الفطرة نفسها؛ فهي دافع قوي جدًّا للإيمان والتوحيد يجده الإنسان من نفسه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30)، وقد سبق الحديث عن ذلك.

والفطرة لأنها مستقرة في النفوس، ولكن قد يجحدها الجاحدون بألسنتهم وإن استيقنتها أنفسهم، فكان إلزام القرآن لهم بأدلة الخلق ومعاني الربوبية أقوى وأكثر، وهذا هو المسار الثاني الرئيسي.

2- المسار الثاني: الاستدلال بآثار ربوبية الله -تعالى-: وهذا يتضمن عدد كبير من الأدلة؛ ونشير منها لدليلين رئيسيين:

أ‌- دليل الخلق والإيجاد: فالكون حادث كائن بعد العدم، وكل شيء يحدث بعد أن لم يكن؛ فلا بد له من محدث، وهذا دليل سهل، قريب، شائع بين الناس؛ كما قال -تعالى-: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ . أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ . أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ . أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ . أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ . أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ . أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الطور: 35 - 43)، وتأمل هذه الآيات؛ فهي من أعظم السياقات القرآنية في هذا الباب.

وكذا سياق سورة الواقعة: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ . أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ . أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) (الواقعة: 57-60).

ب‌- ودليل الإحكام والإتقان: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (يونس: 101)، فالكون خلق بميزان وإحكام وإتقان هو فوق إدراك المخلوقين، ولا يصدر إلا عن إله خالق عليم قادر مقتدر.

انظر إلى أقرب شيء إليك! انظر إلى نفسك؛ لترى الإحكام والإتقان في خلق الإنسان، (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا) (الإنسان: 28)، أي: أحكمنا خلقهم وقويناهم.

ارفع إصبعك الصغير أمام عينك، إن فيه مئات الملايين من الخلايا، في كل خلية منها عجائب وأسرار، لن يتسع المقام للوقوف إلا على طرف يسير من ذلك، لكن لك أن تتأمل في قول لينوس باولنج -الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء-: "إن خلية حية واحدة من بدن الإنسان هي أشد تعقيدًا من مدينة نيويورك!".

من بين خلايا جسمك البالغ عددها 37.2 تريليون خلية تقريبًا، هناك تقريبًا 10 تريليون منها تحمل نواة، في داخل نواة هذه الخلايا الجسميَّة يوجد 23 زوجًا من الكروموسومات، وبداخل هذه الكروموسومات خيط رفيع جدًّا يسمَّى: DNA شفرتك الوراثية؛ يحمل هذا الخيط معلومات عن صفاتك ووظائف أعضائك بشكل كامل.

طول هذا الخيط: إذا فردنا الكروموسومات الموجودة في خلية واحدة ووصلناها ببعضها، سيبلغ طولها تقريبًا 2 متر في المتوسط، وإذا وصلنا خيوط المادة الوراثية في خلايا جسمك كلها، سيكون الطول تقريبًا 20 مليار كيلومتر، وهذا الرقم يساوي مسافة الرحلة التي تقطعها سفينة فضاء في رحلتها من الأرض إلى الشمس 70 مرة ذهابًا وإيابًا على أقل التقديرات!

فتخيل أن طول المادة الوراثية في جسمك كافية لتلف حول الشمس 4577 مرة!

وهذا ما يتعلق بطولها فقط؛ أما طريقة عملها، وكيفية قراءتها، واستخراج المعلومات منها؛ فعالَم آخر!

وللحديث بقية -إن شاء الله-.