كتبه/ أحمد شهاب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن القرآن -وإن بيَّن الأدلة أوضح بيان- لم يطل الجدال في الاستدلال على وجود الله -تعالى-؛ لأنّ القرآن يقرّر أنّ الفطر السليمة، والنفوس الطاهرة المستقيمة -التي لم تتقذر بأقذار الشرك والجحود- تُقرُّ بوجوده من غير حاجة لدليل خاص.
إن الإيمان بوجود الله أمر فطري ضروري -لا يتوقف على النظر والاستدلال- مع صحة الفطرة وسلامتها؛ خلافا لمن قال: إن معرفة الله نظرية تفتقر إلى نظر واستدلال، وقد فنَّد شيخ الإسلام هذا الزعم الباطل، فقال: (ليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا قاله أحد من الأنبياء والمرسلين، ولا هو قول المتكلمين، ولا غالبهم، بل هذا قول محدث في الإسلام، ابتدعه متكلمو المعتزلة، ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمهم... بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله، والإقرار به لا يقف على هذه الطرق التي يذكرها أهل النظر" (بيان تلبيس الجهمية).
فالإيمان بالله ضرورة معرفية؛ أي: أن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن تستقيم أو يكون لها نظام إلا مع الإيمان بالله، وكذلك هو ضرورة نفسية واجتماعية وأخلاقية.
هذه الفطرة هي التي تفسر الظاهرة التي لاحظها الباحثون في تاريخ الأديان، وهي: أن الأمم جميعًا -التي درسوا تاريخها- اتخذت معبودات تتجه إليها وتقدَّسها. وقد بينت الدراسات على الشعوب والأمم المتعددة؛ أن الناس منذ فجر التاريخ يعبدون شيئًا ما.
وفي عام 2008م نُشر بحث أكاديمي في صحيفة التلغراف البريطانية تحت عنوان: "الأطفال يولدون مؤمنين بالله" أكد أنه طبقًا للدراسات العلمية، ودون وجود محفزات خارجية لأي اتجاه؛ فإن الأطفال يولدون مؤمنين بوجود إلهٍ خلقهم وخلق الكون! وقد نصَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- على صدق هذا، ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (متفق عليه)، ولم يقل: يُسلمانِه، لأن الإسلام مُوافقٌ للفطرة.
وإذا كان هناك من ينكر وجود الله حال الرخاء، فكل ذلك يتلاشى حال الشدة والضرورة؛ كما قال -تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا) (الإسراء: 67)، (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (لقمان: 32).
وكما قالوا في الحرب العالمية الثانية "لا يوجد ملحدين في الخنادق".
فالإلحاد خيار مضاد للفطرة والعقل، بل إن شئت فقل كما قال الدكتور محمد إسماعيل المقدم: "إن الإلحاد غير مستطاع"، لكن عندما يشعر الإنسان -جهلًا وظلمًا- أنه مستغنٍ عن ربه يظهر منه الجحود والعناد: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق: 6، 7).
فوجود الله -بل وكماله- ثابت بالعقل والفطرة والشرع فلا ينكره إلا من انتكست فطرته فعميت عن ضوء الشمس في رابعة النهار وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل.
وطرق الناس في يقينهم بخالقهم وموجدهم تتنوع جدًّا، فهذا دعا ربه في ضرورة أو حاجة فاستجاب له فليس بعد ذلك في نفسه حاجة لدليل يقيني آخر بعد هذه الاستجابة التي وجدها كالشمس في رابعة النهار، بل تراه يقسم بالذي نجاه يوم كذا؛ فاكتفى بهذا عن البحث عن أي دليل.
وآخر رأى معجزة باهرة لنبي من الأنبياء فأحدثت له اليقين، وثالث مكتف بخبرٍ من صادقٍ هو يرى عليه علامات الصدق بادية ويعلم علم اليقين عنده أن هذا الوجه ليس بوجه كذاب فأغناه هذا عن أي دليل.
ورابع يكتفي بإقسام منه له بأوثق الأيمان ويحدث له بذلك اليقين العظيم فهو يعلم بحدسه وخبرته الصادق من الكاذب.
وخامس رأى رؤيا تحققت كالشمس دلته على النور والحق.
وسادس يرى من نور وحيه وتشريعاته ما كفاه.
وسابع رأى من سيرة رسوله ما أغناه. وثامن وتاسع وعاشر، إلى ما لا نحصره من طرق وجود اليقين في نفوس الناس.
وأيًّا ما كان الطريق والسبيل إلى اليقين، فالإيمان بالله هو أصل هذا الدين وأول الواجبات، ونعني بالإيمان به ليس مجرد المعرفة النظرية بل توحيده -سبحانه وتعالى- بأسمائه وصفاته وتوحيده بأفعاله وإفراده بالعبادة وحده، فالتوحيد بمعناه الصحيح الشامل أساس الدين كله.
فأول ما يجب على العباد معرفة الأمر الذي خلقهم الله له، وأخذ عليهم الميثاق به، وأرسل به رسله إليهم وأنزل به كتبه عليهم، ولأجله خلقت الدنيا والآخرة والجنة والنار، وبه حقت الحاقة ووقعت الواقعة، وفي شأنه تنصب الموازين وتتطاير الصحف، وفيه تكون الشقاوة والسعادة، وعلى حسبه تقسم الأنوار، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور: 40)، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك: 2).