الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 25 سبتمبر 2024 - 22 ربيع الأول 1446هـ

غزة رمز للعزة (19) إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية (1-3)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد تقدمت جمهورية جنوب إفريقيا بصفتها عضوًا في الأمم المتحدة وموقعة على اتفاقية (منع جريمة الإبادة الجماعية)، بما يعني أنها ملتزمة بغرض الاتفاقية الذي أنشأت الاتفاقية من أجله، تقدمت بشكواها ضد دولة إسرائيل بصفتها عضوًا أيضًا في الأمم المتحدة وموقعة على نفس الاتفاقية، وطبقًا للمادة التاسعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية فإنه تعرض المنازعات بين الأطراف الموقعة على الاتفاقية والمتعلقة بتفسير هذه الاتفاقية أو تطبيقها أو تنفيذها، بما في ذلك تلك المتعلقة بمسؤولية دولة ما عن الإبادة الجماعية، إلى محكمة العدل الدولية بناءً على طلب أي من أطراف النزاع.

وهنا من منطلق أن جنوب إفريقيا باعتبارها دولة طرفًا في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها تعد مسئولة كدولة طرف في الاتفاقية العمل على منع الإبادة الجماعية أو خطر حدوثها في قطاع غزة؛ خاصة بعد كل الدعوات إلى إسرائيل المحتلة لقطاع غزة للوقف الفوري للأعمال العسكرية العدائية المفرطة التي تجاوزت جرائم الحرب إلى حد الإبادة الجماعية في القطاع، والامتناع عن السلوك الذي يشكل -أو لا يمنع- حدوث انتهاكات بموجب التزاماتها بموجب الاتفاقية، خاصة مع عدم رد إسرائيل بشكل مباشر على المذكرة الشفوية التي أرسلتها جنوب إفريقيا في 21 ديسمبر 2023 إلى إسرائيل بمنع حدوث الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي، ورفض إسرائيل علنا اتهامها بارتكاب إبادة جماعية خلال هجماتها العسكرية، وإدراكًا من جنوب إفريقيا لدور محكمة العدل الدولية الهام، وأهمية ممارسة مسؤوليتها الجسيمة فيما يحدث من أعمال إبادة جماعية ضد سكان غزة، والتي تشتكي منها جنوب إفريقيا.

وقد شرعت محكمة العدل الدولية فعليًّا في مناقشة الدعوى المقدمة من دولة جنوب إفريقيا في يومي: الحادي عشر والثاني عشر من يناير 2024.

وكانت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية الصادرة من منظمة الأمم المتحدة عام 1948، قد وقعت عليها إسرائيل في 17 أغسطس 1949، وأودعت صك التصديق عليها في التاسع من مارس 1950، وأصبحت طرفًا في الاتفاقية عند دخول الاتفاقية حيز التنفيذ في 12 يناير 1951، بينما أودعت جنوب إفريقيا صك انضمامها للاتفاقية في 10 ديسمبر 1998، أي: أن إسرائيل وجنوب إفريقيا طرفان في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.

يتعلق طلب دولة جنوب إفريقيا بالأعمال التي تم التهديد بها أو تبنيها أو التغاضي عنها أو اتخاذها من قِبَل الحكومة الإسرائيلية وجيشها ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة في أعقاب عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023؛ بدعوى أنها حرب ضد جماعة حماس مع كون القتل العشوائي لآلاف المدنيين والتدمير واسع النطاق غير المسبوق للبنية التحتية المدنية والتهجير القسري لمعظم سكان القطاع، وتحويل القطاع إلى معسكر اعتقال تتم فيه أعمال الإبادة الجماعية يفضح تلك الأكذوبة، ويؤكد أن هذه الأعمال العسكرية المفرطة بمثابة عقاب جماعي وإبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، لما فيها من انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لا لبس فيها كما سيأتي. 

إضافة إلى الفشل الإسرائيلي في وقف تلك الإبادة أو منعها أو معاقبة المسئولين عنها، وذلك من أجل ضمان الحماية العاجلة والكاملة الممكنة للفلسطينيين العزل في غزة، وكذلك تقديم التعويضات المناسبة لضحاياها، وتقديم الضمانات الكافية بعدم تكرارها، وهذا بناءً على أنه يجوز لأي دولة طرف في اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وليس فقط الدولة المتضررة بشكل خاص، تقديم طلبها لمحكمة العدل الدولية للنظر في الانتهاكات التي تقوم بها دولة أخرى هي طرف في الاتفاقية.

وقد جاء في مقدمة دعوى جنوب إفريقيا: أن قطاع غزة وهو شريط ضيق من الأراضي، يحدها من الغرب البحر الأبيض المتوسط ومن الجنوب مصر، ومن الشمال والشرق إسرائيل، وهي تمثل مع الضفة الغربية لنهر الأردن والقدس الشرقية دولة فلسطين، التي اعترفت بها دولة جنوب إفريقيا في فبراير 1995، وقد منحت مركز دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 2012. وتبلغ مساحة القطاع 365 كيلو متر مربع، يسكنه نحو 3و2 مليون شخص؛ لذا فيعد القطاع من أكثر الأماكن في الكثافة السكانية، نصفهم تقريبًا من الأطفال، ويعد 80 % منهم من اللاجئين وأولاد وأحفاد اللاجئين من البلدات والقرى التي تعرف الآن بدولة إسرائيل، وقد طردوا أو أجبروا على الفرار أثناء التهجير الجماعي لأكثر من 750 ألف فلسطيني، وهو ما يعرف تاريخيًّا بالنكبة؛ ذلك أثناء إنشاء دولة إسرائيل؛ ولذلك فإن النكبة والتهجير الجماعي المرتبط بها يحتل مكانة بارزة في تاريخ ووعي الفلسطينيين في غزة.

كانت غزة محتلة في أعقاب حرب يونيو 1967، وفي عام 2005 قامت إسرائيل بفك الارتباط مع غزة وتفكيك قواعدها العسكرية ونقل المستوطنين الإسرائيليين منها إلى إسرائيل والضفة الغربية المحتلة. 

وعلى الرغم من فك الارتباط فقد مارست إسرائيل سيطرتها على المجال الجوي وعلى المياه الإقليمية والمعابر البرية والمياه والكهرباء والوقود والبنية التحتية المدنية في غزة، واستولت على المهام الحكومية الرئيسية؛ مثل: إدارة سجل السكان الفلسطينيين في غزة، ونظرًا لاستمرار سيطرة إسرائيل على قطاع غزة فالمجتمع الدولي يعتبرها خاضعة للاحتلال العسكري من جانب إسرائيل، وقد تجلت تلك السيطرة شبه الكاملة بشكل صارخ بعد 7 أكتوبر 2023 من قطع المياه وإمدادات الغذاء والوقود والكهرباء والدواء عن غزة.

وفي أعقاب فوز حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية عام 2006 اعتبرت إسرائيل القطاع منطقة معادية، وقامت بتشديد القيود على حركة الأشخاص والبضائع بشكل كبير، وفرضت حصارًا صارمًا على غزة؛ مما أدى إلى عزلة طويلة الأمد على القطاع، حيث تتحكم إسرائيل في معبر (إيريز) للمشاة ومعبر (شالوم) للبضائع، وهما وسيلتا التواصل والانتقال بين غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية للتجارة والعمل والحصول على رعاية صحية متقدمة وعلى الخدمات الاجتماعية وزيارة الأقارب.

وقد تعنتت إسرائيل طوال تلك الفترة في منح الفلسطينيين في غزة تصاريح للسفر، وهي تصاريح لا يحصل عليها إلا القليل، وقد سجلت منظمة الصحة العالمية بين سنتي 2008 و2021 أن هناك 839 فلسطينيًّا من غزة توفوا أثناء انتظارهم للحصول على تصاريح طبية لمغادرة غزة لتلقي العلاج العاجل، بينما كانت غالبية التصاريح التي تمنح لدخول إسرائيل هي تصاريح مخصصة لعمال اليومية وتجار المنتجات الزراعية. 

كما قيدت إسرائيل بشدة دخول البضائع للقطاع من خلال حظر البضائع بدعوى أنه يمكن أن يكون لها استخدام مدني وعسكري مزدوج؛ كما قيدت الإمدادات الغذائية داخل القطاع بتقليص المساحة الزراعية الرئيسية المخصصة للزراعة؛ كما جعلت إسرائيل الصيد البحري في القطاع أمرًا خطيرًا بالنسبة للصيادين الفلسطينيين؛ إذ ليس لهم الوصول إلى كامل منطقة الصيد، والتي تبلغ 20 ميلًا بحريًّا، نصت عليها اتفاقية (أوسلو) المبرمة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في أوائل التسعينيات، وقد أدى الحصار البحري الذي فرضته إسرائيل واستخدام القوة والاعتقالات ومصادرة معدات الصيد إلى تقليص منطقة صيد الأسماك في غزة بشدة.

لقد حول الحصار الإسرائيلي على غزة القطاع من مجتمع منخفض الدخل بقدرات تصدير متواضعة إلى (جيتو) فقير، له اقتصاد متهالك، ونظام خدمة اجتماعية منهار. 

ويمكن وصف وضع غزة مع نهاية عام 2022 بأنه قطاع تتمثل إستراتيجية إسرائيل الواضحة تجاهه أن سكانه غير مرغوب فيهم، وهم محصورون في شريط ساحلي ضيق من خلال الحصار الجوي والبري والبحري لمدة 15 عامًا بلغت فيه البطالة نسبة 45%، ونسبة الفقر 60 %، ليصبح 80 % من سكانه يعتمدون على شكل من أشكال المساعدات الدولية. 

كما تعرضت طبقة المياه الجوفية الساحلية في غزة، وهي المصدر الوحيد لمياه الشرب الطبيعية، للتلوث من خلال التلوث بمياه البحر والصرف الصحي؛ مما جعل قطاع غزة يعتمد بشكل كبير في الحصول على مياه الشرب من المصادر الخارجية. 

هذا مع انقطاع للتيار الكهربائي يستمر لساعات طويلة أثناء اليوم، مع خنق الاقتصاد المحلي من خلال الرقابة الإسرائيلية الصارمة والتحكم في دخول وتصدير البضائع من وإلى القطاع؛ كما عانى نظام الرعاية الصحية في القطاع من انهيار كبير نتيجة للنقص الخطير في مجال الرعاية الصحية نتيجة نقص معدات العلاج وتناقص أعداد العاملين، ونقص الإمدادات من الأدوية والعقاقير الطبية.

هذا إلى جانب تحمل سكان القطاع لأربع حروب غير متكافئة إلى حد كبير مع الجيش الإسرائيلي خلال الثلاثة عشر عاما الماضية كانت الأكبر تأثيرًا، وتسببت في فقد أرواح مدنيين كثيرة وتدمير هائل للممتلكات، إذ قتل في الفترة ما بين سبتمبر 2000 وأكتوبر 2023 نحو 7569 فلسطينيًّا وأصيب عشرات الآلاف؛ إضافة إلى مقتل 214 فلسطينيًّا آخرين خلال مظاهرات (مسيرة العودة)، وهي احتجاج سلمي واسع قام به الفلسطينيون على طول السياج الفاصل بين غزة وإسرائيل شارك فيه الآلاف من الفلسطينيين كل يوم جمعة لمدة 18 شهرًا مطالبين برفع الحصار المفروض عليهم وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم ومنازلهم في إسرائيل.

العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023:

تعرض قطاع غزة من جديد لهجمات عسكرية واسعة النطاق برًّا وبحرًا وجوًّا، منذ الثامن من أكتوبر 2023، هي من أعنف حملات القصف التقليدي في التاريخ الحديث، وتشير التقديرات أنه خلال أول ثلاثة أسابيع من القصف تم إسقاط 6000 قنبلة أسبوعيًّا على قطاع غزة صغير الحجم، وأنه خلال شهرين أحدثت الهجمات العسكرية دمارًا أكبر من حجم الدمار الذي لحق بمدينة حلب السورية بين عامي: 2012 و2016، ومدينة ماريو بول في أوكرانيا، وأكبر من قصف الحلفاء لألمانيا في الحرب العالمية الثانية، والذي جعل غزة تبدو من الفضاء بلون مختلف وتتخذ نسيجًا مختلفًا عما كانت عليه قبل الدمار؛ كما ذكر الأمين العام للأمم المتحدة في رسالة مؤرخة في السادس من ديسمبر 2023 موجهة إلى رئيس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، التي أحاطت الجمعية العامة للأمم المتحدة علمًا بها بشكل صريح في قرار الجمعية العامة المؤرخ في 12 ديسمبر 2023 بشأن حماية المدنيين والوفاء بالالتزامات القانونية والإنسانية.

وقد وصف المسؤولون في الأمم المتحدة وفي اللجنة الدولية للصليب الأحمر -كما جاء في النص العربي المترجم لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية-: بأن ما يتكشف لهم في قطاع غزة يعد أزمة إنسانية، وأنهم لم يروا شيئًا مثل ما يرونه اليوم في غزة، مما يعد فشلًا أخلاقيًّا يسبب معاناة لا تطاق، وأن الوضع الآن هناك مروع، إنه جحيم حي، هناك بقايا أمة تدفع إلى جيب في الجنوب! 

شعب بأكمله يعيش في رعب مطلق ومعمق، يتعرضون للقصف الإسرائيلي بلا هوادة، قصف للمنازل والملاجئ والمستشفيات والمدارس وأماكن العبادة، ويعانون الموت والحصار، والدمار والحرمان من الاحتياجات الإنسانية الأكثر أهمية؛ مثل: الغذاء والماء والإمدادات الطبية المنقذة للحياة، وغيرها من الضروريات اللازمة للبقاء على قيد الحياة. 

إن غزة أخطر مكان يمكن أن يعيش فيه طفل أو إنسان؛ كل شيء فيها غير مسبوق، لقد نفذت الكلمات لوصف ما يجري.

أعمال القتل العشوائية الموسعة:

تفيد التقارير القادمة من غزة أن هناك عشرات الآلاف من الفلسطينيين قد قتلوا وعشرات الآلاف آخرين أصيبوا، وأن 70% منهم أطفال ونساء، وأن هناك الآلاف ما زالوا في عداد المفقودين وتحت الأنقاض، غالبهم قد لقوا حتفهم تحت تلك المباني المدمرة أو يموتون ببطء أو تحللوا حيث قتلوا؛ إذ تمنع قوات الاحتلال عمدًا أي محاولات لانتشالهم من تحت الأنقاض وإغاثتهم أو إنقاذهم، كما تستهدف بالقصف سيارات الإسعاف إلى جانب قطع الاتصالات عن القطاع. 

وبلغ الأمر من كثرة عمليات القتل الواسع النطاق أنه يتم دفن جثث الموتى في مقابر جماعية، وغالبًا ما تكون مجهولة الهوية. ولم يعد في غزة أي مكان آمن، لقد قتل الفلسطينيون في منازلهم، وفي كل الأماكن التي لجأوا إليها للاحتماء بها، في المستشفيات، في المدارس، حتى في مدارس ومنشآت الأونروا التابعة للأمم المتحدة، وفي المساجد والكنائس، حتى إنهم قتلوا أثناء محاولتهم الفرار على طول الطرق التي أعلنت قوات الاحتلال أنها طرق آمنة للفرار نحو وسط القطاع وجنوبه، بل إن هناك تقارير عن إطلاق النار على أشخاص عزل فور رؤيتهم على الرغم من عدم تشكيلهم أي تهديد. 

وقد أسقطت القوات الإسرائيلية في مناطق من أكثر المناطق كثافة سكانية قنابل ثقيلة يصل وزنها إلى 2000 رطل (900 كيلو جرام)، والتي يتوقع أن يصل نصف قطرها المميت إلى 360 مترًا، وأن تتسبب في أضرار بالغة إلى مسافة تصل إلى 800 متر من نقطة الارتطام.

مأساة الأطفال في غزة لا مثيل لها:

وبالنسبة للأطفال الفلسطينيين على وجه الخصوص فلا مكان آمن لهم، ففي أول شهرين من العدوان على غزة كان معدل القتل للأطفال في غزة أكثر من 115 طفلًا فلسطينيًّا يقتلون يوميًّا؛ لذا وصفت غزة بأنها (مقبرة للأطفال)، وأن الهجمات الإسرائيلية في غزة إنما هي حرب على الأطفال هناك. 

إن معدل الضحايا من الأطفال في الصراعات التي شاهدها العالم في آخر 20 سنة حوالي 20%، ولكن في العدوان الحالي على غزة بلغت النسبة حوالي 40 %، أي ضعف عدد الأطفال الذين يقتلون في الصراعات الأخرى. ويعاني 80% من هؤلاء الأطفال من مستويات عليا من الاضطراب العاطفي، ومن صوره التبول اللاإرادي، والصمت التفاعلي، والانخراط في إيذاء النفس. 

ومعلوم أن الأزمات العنيفة تؤثر على الأطفال بشكل رهيب، فهم الأكثر ضعفًا؛ فالتعرض المتكرر للعنف والصراع، بما فيها مشاهدة وتجربة هدم المساكن والحصار الشديد، يرتبط بمستويات عالية من الضيق النفسي؛ هذا إلى جانب الانقطاع عن التعليم، إذ تم تدمير نحو 74 % من المدارس في غزة تدميرا كاملا، وانقطعت العملية التعليمية في القطاع تمامًا. إن هذه المعاناة سيكون لها آثارها على صحة هؤلاء الأطفال الجسدية والنفسية مدى الحياة. 

لقد وصفت منسقة الطوارئ لمنظمة أطباء بلا حدود عند عودتها من قطاع غزة بعد خمسة أسابيع من بداية العدوان الإسرائيلي الأوضاع بقولها: (إنه في الواقع أسوأ مما يبدو، إنه لا يوجد شيء يضاهي مقدار المعاناة، فهو أمر لا يطاق حقًّا. وأنا عاجزة عن الكلام عندما أحاول أن أفكر في مستقبل هؤلاء الأطفال. إن هناك أجيالًا من الأطفال الذين سيكونون معاقين، والذين سيصابون بصدمات نفسية. إن الأطفال المشاركين في برنامجنا للصحة العقلية يقولون لنا: إنهم يفضلون الموت على الاستمرار في العيش في غزة الآن).

وهناك حالات كثيرة من الإصابة بالحروق وبتر الأطراف، حيث يوجد نحو ألف طفل فقدوا إحدى ساقيهم أو كلتيهما، كما أن هناك عشرات الآلاف من الأطفال فقدوا أحد والديهم على الأقل.

استخدام أسلحة محرمة دوليًّا ضد المدنيين:

هناك تقارير باستخدام القوات الإسرائيلية للفسفور الأبيض المحرم دوليًّا، والذي يسبب حروقًا عميقة وشديدة.

قتل الأطباء والصحفيين والعاملين في الأمم المتحدة:

فقد قُتِل في غضون هذين الشهرين أكثر من 311 طبيبًا وممرضًا وعاملًا من العاملين في مجال الرعاية الصحية، وقتل سائقي سيارات إسعاف، وذلك أثناء أدائهم لأعمالهم؛ كما قتل 103 من الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام، وقتل 40 عاملاً في مجال الدفاع المدني المسئولين عن المساعدة في انتشال الضحايا من تحت الأنقاض؛ كما قتل 144 موظفًا في الأمم المتحدة، وهو أكبر عدد من عمال الإغاثة الذين قتلوا في تاريخ الأمم المتحدة في مثل هذا الوقت القصير.

تداعيات أخرى للحصار المفروض:

تشير التقديرات إلى أن انتشال رفات من هم تحت الأنقاض سيستغرق سنوات، مع صعوبة التعرف على هوية كل جثة؛ هذا بالإضافة إلى تعرض الفلسطينيين إلى خطر الموت المباشر المؤلم البطيء بسبب الجوع والعطش والجفاف، نتيجة الحصار المستمر وعدم السماح بوصول الإمدادات والمساعدات الكافية إلى السكان الفلسطينيين، مع الصعوبات الشديدة في توزيع المتاح من المساعدات المحدودة التي يسمح بدخولها إلى القطاع نتيجة تدمير البنية التحتية وانقطاع كل سبل الاتصال.

المعاملة اللا إنسانية للمدنيين الفلسطينيين:

تتعمد قوات الاحتلال الإسرائيلية تجريد المدنيين الفلسطينيين من إنسانيتهم من خلال المعاملة القاسية واللا إنسانية والمهينة، وأفادت التقارير إلى أنه تم اعتقال أعداد كبيرة من المدنيين بما في ذلك الأطفال، وتعصيب عيونهم، وإجبارهم على خلع ملابسهم والبقاء في الخارج في الطقس البارد في شهور الشتاء، وإجبارهم على ركوب الشاحنات ونقلهم إلى أماكن مجهولة، كما تم احتجاز الأطباء والمسعفين ومقدمي خدمات الإسعاف الأولية بشكل متكرر. 

وقد عرضت مقاطع فيديو نشرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية في يوم عيد الميلاد (عند النصارى) يظهر فيها مئات الفلسطينيين داخل ملعب اليرموك لكرة القدم في مدينة غزة، بما في ذلك أطفال وكبار سن وأشخاص من ذوي الإعاقة، حيث يجبرون على خلع ملابسهم باستثناء ملابسهم الداخلية في ظروف مهينة. وقد أفاد العديد من المعتقلين الفلسطينيين الذين تم إطلاق سراحهم أنهم تعرضوا للتعذيب وسوء المعاملة، بما في ذلك الحرمان من الطعام والماء، والمأوى، والوصول إلى المراحيض. وأفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية: أن هناك لقطات تظهر فيها كدمات وحروق على أجساد المعتقلين.

الإخلال بالوعود الآمنة:

تكررت من القوات الإسرائيلية أوامر الإخلاء التي تطالب المدنيين الفلسطينيين في غزة بمغادرة منازلهم إلى مناطق أخرى، وتشير التقديرات إلى أن نحو 9و1 مليون فلسطيني من سكان غزة، أي: ما يقرب من 85 % من السكان، قد أجبروا بالفعل على ترك منازلهم، ولا يجدون مكان آمن للفرار إليه؛ أما من لم يستطيعوا المغادرة أو رفضوا النزوح فقد قتلوا، أو هم من المعرضين بشدة لخطر القتل.

وقد صدر الأمر الأول في 13 أكتوبر 2023 بأن يغادر 1و1 مليون فلسطيني يعيشون أو يتواجدون في شمال غزة منازلهم والتوجه إلى جنوب غزة في غضون 24 ساعة، وقد حذرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من أن تعليمات الإخلاء هذه والتي تؤثر على سكان 36 % من أراضي غزة؛ بالإضافة إلى الحصار الكامل لا تتوافق مع القانون الإنساني الدولي. 

وحذرت منظمة الصحة العالمية من أنها قد تكون بمثابة حكم الإعدام على مرضى ومصابي المستشفيات، ومع ذلك استمرت قرارات الإخلاء. وقد تم حث الفلسطينيين الفارين من الشمال بأوامر الإخلاء الإسرائيلية على التحرك جنوبًا على طريق صلاح الدين، شريان المرور الرئيسي هناك، في أيام معينة في أوقات معينة، ومع ذلك تم الإبلاغ عن العديد من حالات القصف على طول الطريق؛ كما واصلت القوات الإسرائيلية قصف جنوب وادي غزة مما أدى إلى مقتل العديد من الفلسطينيين الذين تم إجلاؤهم إليه.

وفي الأول من ديسمبر 2023 ومع نهاية الهدنة المؤقتة التي استمرت ثمانية أيام بين إسرائيل وحماس ألقت القوات الإسرائيلية منشورات تحث الفلسطينيين على مغادرة الأماكن التي طلب منهم في السابق الفرار إليها، والتي تشكل نحو 30 % من غزة، أي: تراجعت القوات الإسرائيلية عن وعودها بتوفير السلامة لأولئك الذين امتثلوا لأوامرها بإخلاء شمال غزة قبل شهرين، وتم تهجيرهم قسرا مرة أخرى إلى جانب سكان جنوب غزة. وقد نشرت القوات الإسرائيلية خريطة تفصيلية على الإنترنت تقسم قطاع غزة إلى مئات المناطق الصغيرة بغرض تقديم الإشعار بإخلاء مناطق فردية منها قبل الضربات الجوية المخطط لها، ولكن دون تحديد المكان الآمن الذي يجب أن يتم الإجلاء إليه، علاوة على أن وسط قطاع غزة يعاني من الانقطاع المستمر للكهرباء والاتصالات السلكية واللاسلكية منذ 11 أكتوبر 2023 فلا توجد طريقة موثوقة للوصول لتلك الخرائط الرقمية والتعرف على ما فيها. وفي ليلة عيد الميلاد نفسها قصفت قوات الاحتلال مخيم اللاجئين المغازي في المنطقة الوسطى التي هرب إليه عشرات الآلاف من الفلسطينيين القادمين من شمال غزة؛ مما أدى إلى مقتل 86 شخصًا وإصابة آخرين. 

وبالنسبة لمن تم إجلاؤهم قسرًا من منازلهم؛ فقد دمرت أو أتلفت القوات الإسرائيلية ما يقدر بنحو 355 ألف من منازلهم، وجعلتها غير قابلة للسكنى إلى حدٍّ كبير، وهي تمثل 60 % من إجمالي المساكن في غزة، مما يحبط أي آفاق واقعية لعودة أصحابها المشردين إليها، مما يمثِّل تكرارًا تاريخيًّا للتهجير القسري الجماعي للفلسطينيين من قِبَل العصابات الصهيونية الإرهابية في عام 1948.