الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 18 سبتمبر 2024 - 15 ربيع الأول 1446هـ

عزة رمز للعزة (18) (نتن ياهو بين الإرهاب وجرائم الحرب) (2-2)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قدَّم نتن ياهو نفسه للمجتمع الإسرائيلي خلال سنوات طويلة قاد فيها حزب الليكود -وتحالف فيها مع الأحزاب الدينية اليهودية المتطرفة هناك- على أنه المنقذ لدولة إسرائيل بعد فترة من أطروحة بيريز ورابين للسلام. 

ومن خلال سنوات طويلة مارس فيها نتن ياهو ألاعيبه السياسة، وحيله وأكاذيبه، وسعى من منطق القوة إلى فرض الخضوع والإذعان على الفلسطينيين والعرب من خلال زعم أن الجيش الإسرائيلي جيش لا يقهر، مع تطلع إلى اقتصاد واعد في المنطقة تقوده إسرائيل؛ خاصة مع دخول العديد من الدول العربية حظيرة التطبيع مع إسرائيل، والنجاح في تدشين الديانة الإبراهيمية في المنطقة. 

وفي أوج ما تصوره نتن ياهو مجدًا حقَّقه جاءت عملية (طوفان الأقصى) من رجال حماس لتضع نهاية مروعة لهذه الأوهام؛ شاء نتن ياهو أم أبى، طال تشبثه بالحكم أو قصر، كما وضعت من قبل حرب العاشر من رمضان (السادس من أكتوبر) في سيناء النهاية الصادمة للغطرسة الإسرائيلية وقتها، وأسطورة الجيش الذي لا يقهر، والحدود الآمنة لإسرائيل، وقدرة إسرائيل على فرض الأمر الواقع على العرب والفلسطينيين بقوة السلاح. 

لقد كتبت عملية طوفان الأقصى نهاية نتن ياهو التي لا محيص عنها؛ مهما حاول بحيله وأكاذيبه مد فترة تشبثه بالحكم، كما وضعت من قبل حرب العاشر من رمضان نهاية جولدا مائير، وموشى ديان السياسية، وهما يظنان أنهما في أقصى مجدهما.

مع حكم نتن ياهو نسيت إسرائيل كلمة السلام، بدأت تخطط لابتلاع الضفة الغربية بالتدريج، وتركت للمستوطنين التوسع هناك طولًا وعرضًا، وأعلنت من جديد المخططات الخفية للسيطرة على محيط المسجد الأقصى؛ لقد أيقظ نتن ياهو من جديد الوحش الصهيوني الكامن في إسرائيل، فبعد أن كانت إسرائيل مع شيمون بيريز تتطلع إلى تكوين شرق أوسط موسع جديد تكسب من ورائه المكاسب الاقتصادية والسياسية مقابل التنازل عن بعض -لا كل- الأراضي الفلسطينية، فجاء نتن ياهو يحلم بضم كامل للأراضي الفلسطينية، وأن تكون حدود إسرائيل قابلة للتوسع حسب قوة جيشها، وأن هذا التوسع وإن تجاوز حدود إسرائيل الحالية؛ فهو توسع إجباري لمواجهة الأخطار ولتحقيق الأمن الداخلي لإسرائيل، مع إمكانية التمدد طبقًا لما ترى فيه إسرائيل المصلحة أمام ما تصل إليه من مصادر للمياه والطاقة، ويتاح لها من أسواق التجارة.

لقد أصبح المجتمع الإسرائيلي في عهد نتن ياهو:

- مجتمع يسعى للحرب، ويطلب السلام من خلال إجبار الآخرين عليه بالقوة.

- مجتمع لا يريد أن يقدم أو يعطي شيئًا مقابل فرض السلام الذي يريده، يريد أن يقبل الآخرون السلام في مقابل السلام.

- مجتمع ليس على استعداد لكي يبت في الأمور المؤجلة كقضية اللاجئين وكالمستوطنات والحدود النهائية.

- مجتمع ليس على استعداد على الإطلاق للتنازل عن الأراضي المحتلة؛ خاصة القدس الشرقية.

- مجتمع يريد أن تكون إسرائيل دولة يهودية خالصة لليهود، ولا يقبل فيها أي قومية أخرى.

- مجتمع تتحكم فيه الأحزاب التلمودية المتطرفة، ولا يعيش إلا من خلال الأساطير التي يعتنقها ولا يؤمن بها إلا هذه الأحزاب اليهودية المتطرفة؛ رغم كل مظاهر العلمانية والتقدم العلمي والتطور التكنولوجي التي تمتلكها إسرائيل، فمقاعد الكنيست أغلبها للأحزاب الدينية لا للأحزاب العلمانية، رغم كل مظاهر الديمقراطية التي تدعي أنها تعتنقها لقد صارت إسرائيل في عهد نتن ياهو تحمل سياسة العنف اللا أخلاقي؛ سياسة تسعى إلى تمدد حدود إسرائيل لتكتسح وتبتلع كل ما تصل إليه من الأراضي الفلسطينية والعربية، سياسة تختلق لنفسها الأخطار التي تبرر له التوسع في احتلال أراضي الغير بدعوى حماية أمنها، سياسة تمارس العنف بقوة ثم تطلب السلام والتطبيع المجاني لتحقيق المصالح التجارية في منطقة مليئة بمصادر الطاقة ورؤوس الأموال والمياه.

وفي إطار تحقيق ذلك والوصول إليه حاول نتن ياهو الاستفادة من الصراع بين فتح وحماس ومنع المصالحة بينهما، بإضعاف قوة ونفوذ السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية والسيطرة على أجهزتها الأمنية في رام الله، والاستفادة من انفصال حماس بقطاع غزة ليشتعل الصدام بينهما ويستمر.

لقد انتهى المطاف بنتن ياهو أن يعلن أن إسرائيل دولة دينية لليهود خالصة على كامل التراب الفلسطيني، وعلى الملأ وأمام الأمم المتحدة يعرض خريطة الدولة وبها مرتفعات الجولان والضفة الغربية وجنوب لبنان.

صدمة طوفان الأقصى وانهيار رؤية نتن ياهو:

جاءت عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية بصورة مذهلة فاقت أي تصور أو توقع لتقلب من جديد موازين المنطقة بأسرها، ولتكشف كل مواطن الضعف والهشاشة أمنيًّا وعسكريًّا داخل الكيان الصهيوني في يوم وليلة، وتقوض كل جهود نتن ياهو عبر سنوات حكمه:

- فقد تم إخلاء المستوطنات في غلاف غزة من المستوطنين، وتحملت الدولة الإسرائيلية تبعات بقائهم خارجها، وكذلك أعباء تقديم التعويضات اللازمة لهم.

- وعاش سكان المدن في جنوب إسرائيل وفي تل أبيب نفسها في المخابئ والملاجئ بشكل يتكرر كثيرًا مع تكرار إطلاق صفارات الإنذار وتكرار التعرض للرشقات الصاروخية؛ لقد أعادت عملية طوفان الأقصى الإسرائيليين من جديد إلى مشاعر الخوف والهلع والقلق من المستقبل القادم.

- وتزايدت بشكل غير مسبوق أعداد المهاجرين بشكل عكسي من إسرائيل إلى خارجها، والتي بلغت مئات الآلاف من اليهود الهاربين من إسرائيل خلال أسابيع قليلة من اندلاع القتال. وكثير من هؤلاء هم من النخب وأصحاب الكفاءات الذين إذا استمرت هجرتهم فلن يبقى في إسرائيل أصحاب كفاءات لكن سيبقى فقط أتباع الأحزاب الدينية المتطرفة وحدهم.

- وتوقفت الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل وهربت رؤوس أموال إلى خارجها، وتراجع الاستثمار المحلي، وتسارعت حركة بيع الأسهم في الشركات الإسرائيلية المدرجة في بورصة تل أبيب. 

وقد تعرضت البورصة إلى تراجع مؤشرها بنحو 15%، وفقدت القيمة السوقية للبورصة ما قيمته 25 مليار دولار مع الأسابيع الأولى للقتال، وأدت الحرب إلى تراجع أسهم أكبر خمسة بنوك مدرجة في البورصة بنسبة تتجاوز 20%، بينما تراجعت أسهم بعض الشركات بأكثر من 35% مقارنة بقيمة إغلاقها عشية الحرب. 

وأدى ذلك إلى تراجع سعر صرف الشيكل (العملة الإسرائيلية) أمام الدولار الأمريكي إلى أدنى مستوى له منذ عام 2012، وهو ما أجبر البنك المركزي في إسرائيل على ضخ نحو 45 مليار دولار في محاولة لتحقيق الاستقرار في سعر الشيكل.

- هرب الآلاف من العمالة الآسيوية خارج إسرائيل بعد نشوب الحرب واكتظاظ المطارات الإسرائيلية بهم. وفي المقابل توقف قدوم عمالة آسيوية جديدة نظرًا لظروف الحرب؛ هذا إلى جانب منع دخول العمالة الفلسطينية إلى إسرائيل والتي تقدر بنحو 140 ألف عامل فلسطيني يعملون في مجالات الزراعة وتربية المواشي، وكذلك توقف عدة مصانع عن العمل بشكل كلي وجزئي لنقص العمالة، وتضررت من ذلك مؤسسات اقتصادية وتعرضت لخسائر اقتصادية كبيرة.

- بلغت نسبة العجز في الميزانية الإسرائيلية في شهر ديسمبر عام 2023 فقط نحو 34 مليار شيكل (نحو9 مليار دولار)، وقدر البنك المركزي الإسرائيلي تكلفة الحرب وقتها بأكثر من 200 مليار شيكل (أكثر من 50 مليار دولار)، وهي تكلفة ثقيلة حتى مع وجود الدعم الأمريكي الواسع والذي بلغ نحو 14 مليار دولار وافق الكونجرس الأمريكي على منحها لدولة الاحتلال نظرا لظروف الحرب.

- توقف قطاع السياحة بأكمله داخل إسرائيل وتأثره البالغ بأوضاع الحرب هناك، وبالتالي فقد ما كانت تدره السياحة من دخل كان يعد موردا هاما للاقتصاد الإسرائيلي.

- إغلاق حقل (تمار) للغاز الطبيعي؛ مما أثر على إنتاج الغاز في إسرائيل، وأدى إلى انخفاض صادراتها من الغاز الطبيعي إلى 70 %.

- انقسم المجتمع الإسرائيلي من الداخل بصورة غير مسبوقة بين مؤيد ومعارض لاستمرار العمليات العسكرية في قطاع غزة وما يرتبط بها من ملفات كتبادل الأسرى والمحتجزين؛ وهو الانقسام الذي صار يتزايد ويتفاقم شهرًا بعد شهر، كلما طال أمد العمليات العسكرية الإسرائيلية شبه اليائسة في قطاع غزة، والتي استنزفت وتستنزف إسرائيل عسكريًّا في الأفراد والعتاد، واقتصاديًّا في التكلفة الباهظة للحرب الدائرة.

- قامت المظاهرات الشعبية الغاضبة في إسرائيل المطالبة بانتخابات برلمانية مبكرة، والمطالبة بإتمام صفقة تبادل الأسرى والمحتجزين مع حماس، وتستنكر سوء إدارة نتن ياهو للأوضاع وعناده في إدارة الأزمة، حيث يحرص على إطالة أمد الحرب لإطالة مدة بقائه في الحكم رغم فشله الذريع في تحقيق أي من أهدافه الإستراتيجية المعلنة مع بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية ولشهور طويلة.

- زادت حدة الاختلاف بين حكومة نتن ياهو ورجال الأعمال وكبار التجار وأصحاب المزارع بسبب تعرضهم لخسائر فادحة بسبب نقص العمالة الإسرائيلية؛ خاصة بعد استدعاء أكثر من 350 ألف من الضباط والجنود الاحتياط من الحياة المدنية للانضمام للجيش للمشاركة في العمليات العسكرية، وهم يمثلون رقما مهما في إدارة الإنتاج القومي يمثل نسبة ليست بالقليلة من سوق العمل في إسرائيل (تزيد عن 8% من القوى العاملة المؤثرة في الاقتصاد الإسرائيلي)؛ إذ إن جميعهم في سن العمل والعطاء، وقد تم إجبارهم على ترك أعمالهم المدنية لأسابيع وشهور لحمل السلاح.

- تأثر الإنتاج الزراعي من الخضروات والفاكهة في إسرائيل بإخلاء مستوطنات غلاف غزة من سكانها خلال الحرب؛ إذ تعتمد إسرائيل على المنتجات الزراعية لهذه المستوطنات، إذ تنتج نحوًا من 75 % من إنتاج الخضروات، و25 % من الفاكهة، بالإضافة إلى نحو 7 % من حليب المزارع؛ كما تم إخلاء مساحات أخرى مشابهة على الحدود اللبنانية بسبب الاشتباكات مع حزب الله في لبنان مما ترتب عليه وقف حصد محاصيل تعتمد إسرائيل عليها؛ وهو ما دفع الحكومة الإسرائيلية في نهاية الأمر إلى زيادة الاستيراد للمنتجات الزراعية من الخارج لسد هذا العجز.

- وقبل كل ذلك وبعده الخسائر العسكرية الكبيرة في الأفراد والمعدات العسكرية، والتي تتعمد الحكومة الإسرائيلية إخفاء حجمها الحقيقي، والتي تعد أكبر خسائر شهدتها إسرائيل منذ حرب العاشر من رمضان، وهي خسائر في تزايد مستمر باستمرار شهور الحرب، خاصة مع توالي البيانات العسكرية التي يبثها إعلام حماس والمقاومة الفلسطينية بصفة دورية، ومنها بيانات موثقة بفيديوهات إعلامية، والتي تشير بوضوح وتؤكد على أن كمية الخسائر الإسرائيلية في الأفراد والمعدات أكثر بكثير مما يتم الإعلان عنه من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث تم تدمير المئات من الدبابات والمدرعات والعربات والجرافات الإسرائيلية بمن عليها من جنود وضباط؛ فضلًا عن قصف ومهاجمة قوات العدو ومراكز تجمعاته ونقط عبوره، ونصب الكمائن لهم، وعمليات القنص بصفة شبه يومية.

- توقف وتعليق مسيرة التطبيع مع الحكومات العربية، والتي كان قد شارف قطارها على الوصول إلى محطة المملكة العربية السعودية، والتي عدها الكثيرون انتصارًا لنتن ياهو ولرؤيته لدور إسرائيل في المنطقة العربية.

- تغير نظرة الرأي العام الغربي مع مرور الوقت للعدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة من التعاطف مع إسرائيل إلى الانكار عليها، كرد فعل على تجاوزات كثيرة غير محسوبة وغير مسؤولة ترتكبها حكومة نتنياهو في تعاملها مع الأوضاع، والتي بلغت صورة غير مسبوقة تنم عن المبالغة في التشفي والانتقام من سكان قطاع غزة المدنيين العزل، والتي تجاوزت استخدام الأسلحة المحرمة دوليا وارتكاب جرائم الحرب اليومية إلى ممارسة أعمال الإبادة الجماعية لشعب غزة، والضغط عليه لإجباره على الهجرة القسرية أو الطوعية، والعمل على إخلاء القطاع بتدمير كل أشكال الحياة فيه من خلال هدم كل الأبراج والمباني السكنية والمنشآت، وكل المدارس والجامعات في القطاع التعليمي، وكل المستشفيات والوحدات الصحية في القطاع الصحي، وقطع إمدادات القطاع من الغذاء ومياه الشرب والوقود والأدوية والمساعدات الطبية؛ أي: استخدام التجويع والحصار الشامل كسلاح في المعركة، والهدم الكامل للبنية التحتية بالقطاع، وتحويله إلى منطقة منكوبة لا تصلح للحياة، كسلاح لفرض التهجير وإجبار الفلسطينيين على ترك ديارهم وأرضهم ووطنهم.

- وأخيرًا -وليس آخرًا-: إعادة الحياة للقضية الفلسطينية من جديد وإعادتها للصدارة دوليًّا، والتفاف الأمتين العربية والإسلامية حولها، ودفع شعوب العالم شرقًا وغربًا إلى التعاطف مع الشعب الفلسطيني لدفع الظلم عنه وتأييد إقامة دولته المستقلة، وجر إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، وإدانتها لقادتها، واحتمالية إصدار قرارات دولية بشأن اعتقال بعضهم، ومنهم نتن ياهو نفسه، وتقديمهم للمحكمة الجنائية الدولية.

- ومما يزيد الأمر سوءًا صلابة المقاومة الفلسطينية وثبات قادتها رغم شدة الضربات الموجهة إليها، وكذلك صمود شعب غزة وتمسكه بأرضه ووطنه رغم كل المعاناة التي يعانيها، بل وانخراط الأجيال الجديدة من الفلسطينيين في الصراع، مما جعل المقاومة الفلسطينية أقوى وأشرس، خاصة مع توحد صفوفها والتنسيق بينها في مواجهة العدو، لتكبده خسائر فادحة لم يكن يتوقعها بحال من الأحوال. فالصورة العامة تشير إلى أن الفلسطينيين لا يكترثون بحجم الخسائر البشرية والمادية؛ لأنهم دائمًا مهددون بالموت تحت الحصار والتجويع والاغتيالات والقمع والاعتقال عبر عقود، فلم يعد لديهم مزيد يخسروه، لكن في هذه المرة لا يدفعون الثمن وحدهم بل يدفع معهم الشعب الإسرائيلي هذا الثمن.

إن هذا كله كان كفيلًا بإدراك قادة الكيان الصهيوني بأن القضاء على المقاومة الفلسطينية صعبٌ جدًّا -إن لم يكن مستحيلًا- في ظل وجود مبررات استمرارها، وهو الاحتلال الصهيوني الغاشم للأراضي الفلسطينية. إن هاجس زوال دولة الاحتلال وعدم قدرتها على تجاوز العقد الثامن من عمرها كما وقع عبر التاريخ اليهودي من قبل أصبح لا يغيب عن ذهن قادة إسرائيل، بما فيهم نتن ياهو نفسه؛ فهو الذي قال في وقت سابق: إنه يجب العمل على ضمان استمرارية إسرائيل لمدة 100 عام مشيرًا إلى أنه لم يحدث في التاريخ أن استمرت دولة لليهود أكثر من 80 عامًا. 

ولعل هذا يفسر ما كشفت عنه الأحداث الأخيرة أن معظم الإسرائيليين يحملون جنسيات أخرى أجنبية لم يتخلوا عنها رغم الهجرة والإقامة الدائمة في إسرائيل؛ لأنهم غير واثقين في أن دولتهم ستبقى وتدوم، وكأنهم يتوقعون يومًا ما هو قدر مكتوب سيفرون فيه من إسرائيل. 

وفي المقابل: فإن المقاومة الفلسطينية صامدة متواصلة، كانت هذه المقاومة قبل ظهور حماس وستستمر حتى -لا قدر الله- إن زالت حماس، خاصة في ظل العناد والكبر والغطرسة التي تمارسه حكومة نتن ياهو وتتبناه الأحزاب المتطرفة هناك وتدعمه الحكومة الأمريكية وحكومات دول غرب أوروبا، مع عدم وجود أي إمكانية للحل السياسي للقضية الفلسطينية في الأفق القريب؛ هذا في الوقت الذي تطارد تهم الفساد نتن ياهو، وهي المطاردة التي هدأت حدتها مؤقتا في انتظار ما ستسفر عنه العمليات العسكرية في قطاع غزة.

تورط نتن ياهو في تهم فساد:

عانى نتن ياهو على مدى العام السابق لعملية طوفان الأقصى من مظاهرات عارمة بشكل شبه يومي في تل أبيب داخل إسرائيل تستنكر رغبته في إجراء تعديلات قانونية تسمح له عند الأخذ بها بالإفلات من العدالة بسبب قضايا فساد مالي تورط فيها هو ونجله. كانت مطالب المتظاهرين التراجع عن مخططات تعديل القوانين السارية، بل والمطالبة بإقالة نتن ياهو من منصبه، وإحالته للقضاء بتهم الفساد الموجهة إليه ولنجله؛ وهي المظاهرات التي هدأت وتيرتها في انتظار انتهاء القتال مع حماس والمقاومة الفلسطينية.

تخفي نتن ياهو خلف حكومة الطوارئ:

شكل نتن ياهو مع وزراء اليمين المتطرف في حكومته في أكتوبر 2023 حكومة طوارئ مصغرة (الكابنيت) لتتولي إدارة شئون الحرب في قطاع غزة وتتحمل بالتالي نتيجتها؛ كان خيار حكومة طوارئ مصغرة هو الاختيار الأفضل لنتن ياهو حتى لا تنهار حكومته الائتلافية اليمينية بعد أن اصطدم بمقترح تشكيل حكومة وحدة وطنية موسعة تضم الائتلاف اليميني الحاكم ومعه المعارضة لإدارة شئون البلاد خلال الحرب مع حماس. 

وتحرص حكومة الطوارئ منذ تكوينها على منع نشر أي تفاصيل تتعلق بالمناقشات داخلها، خاصة في ظل الخلافات والفضائح المثارة داخلها، والتي تدل على غياب الرؤية المتفق عليها للحكومة في التعامل مع الأوضاع الجارية، ويوظف نتن ياهو هذه الحكومة المصغرة لتحقيق ما يريد من خلال ضمه المقربين منه ومنع واستبعاد خصومه والمخالفين له، ويضم الكابنيت أحد عشر وزيرًا؛ كما يضم رؤساء الأحزاب التي يتشكل منها الائتلاف الحاكم لضمان استمرارهم في الائتلاف الحاكم.

والكابنيت مصطلح استخدم في إسرائيل منذ عام 1984 بعد تشكيل ائتلاف حكومي بين حزبي العمل اليساري وحزب الليكود اليميني، وظل أمره ساريًا حتى عام 1990. وتكرر استحضاره بشكل غير رسمي في حكومات تالية، وللكابنيت سلطة صياغة سياسات الحكومة والدولة، وتنفيذ السياسات المتعلقة بالأمن القومي، وله صلاحيات مطلقة تمنحه القدرة على اتخاذ قرارات الحرب والملفات المرتبطة بها، وكذلك المفاوضات السياسية والعلاقات الدبلوماسية والقيام بالمهام الطارئة؛ وهو أيضا معني برفع قدرات الأجهزة الأمنية وتطوير الجيش، وقراراته لا يمكن الطعن فيها أو مراجعتها.

وقد تعددت الأهداف التي حددها الكابنيت للحرب على غزة، وتتضمن تدمير البنية العسكرية والبنية التحتية لحماس؛ لئلا يشكل قطاع غزة في المستقبل أي تهديد لأمن إسرائيل، وإنشاء أماكن أمنية عازلة على أطراف القطاع، وتحقيق الردع وإظهار القوة العسكرية، وحل قضية الرهائن والمحتجزين لدى حماس، وهو ما لم تنجح إسرائيل في تحقيقه حتى الآن رغم كل الدمار الشامل لقطاع غزة، ورغم الارتفاع الكبير جدا لفاتورة العدوان الإسرائيلي على غزة.

الهجوم على نتن ياهو:

في ظل تزايد الانقسامات التي طرأت داخل إسرائيل بعد طوفان الأقصى طالب العديد من رؤساء أحزاب وقيادات سياسية هناك بضرورة إجراء تغيير في الحكومة الحالية خاصة تغيير بعض الوزراء الذين ينتمون لأحزاب تلمودية متطرفة، ومنهم وزير الأمن الداخلي (إيتمار بن غفير) زعيم حزب القوة اليهودية، الذي ينادي بضرورة تهجير الفلسطينيين من غزة قسرًا أو طوعًا، ويطالب ببقاء الجيش الإسرائيلي الدائم فيها، ويشاركه في هذا الرأي وزير المالية (سموتريتش) ومنهم وزير التراث (عميحاي بن إلياهو)، الذي ينتمي لعائلة من الحاخامات اغتنت من أموال الهبات التي حصلت عليها، والذي صرح بإمكانية ضرب قطاع غزة بقنبلة نووية! وهو من خريجي المدارس التلمودية الداعية إلى التخلص من العرب بشكل عام.

حكومة نتن ياهو في انتظار نتائج التحقيقات:

مما لا شك فيه أنه بمجرد انتهاء الحرب القائمة في قطاع غزة؛ ستكون هناك لجنة للتحقيق في القصور والتراخي الذي انتاب الأجهزة الأمنية والاستخبارية، وترتب عليه العجز عن حماية المستوطنين والمواقع العسكرية في غلاف غزة، وأدى إلى النجاح المفاجئ والصادم لعملية طوفان الأقصى؛ لجنة للتقصي والتحقيق على غرار لجنة (جرانت) التي حققت في أسباب هزيمة إسرائيل في حرب العاشر من رمضان وأدانت بشدة القيادات العسكرية في إسرائيل وقتها. 

والمتوقع إدانتها للقيادات السياسية والعسكرية والأمنية في إسرائيل بدرجات متفاوتة، لكنها تهدد مستقبلها السياسي والعسكري؛ خاصة وقد تسربت أنباء عن وجود وثيقة أعدتها المخابرات العسكرية الإسرائيلية في عام 2014 في أعقاب عملية (الجرف الصامد) على غزة، أكدت فيها لنتن ياهو إمكانية القضاء على حركة حماس في غضون 5 سنوات، ولكن بكثير من التضحيات، وربما تتسبب في تهديد اتفاقية السلام مع مصر.