كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال الله -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- ومن الكبائر المهلكة لصاحبها في الدنيا والآخرة "اليمين الغموس": روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: (الْإِشْرَاكُ بِاللهِ). قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ). قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (الْيَمِينُ الْغَمُوسُ)، قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ: (الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ).
- الإشارة إلى تساهل كثير من الناس بأيمانهم: فأصبح البعض يحلف بالله في كثير من أحاديثه وأقواله، وفي بيعه وشرائه، وفي كل أمر يعِدُ به غيره؛ لحاجة أو لغير حاجة! حتى وقع كثير منهم في اليمين الكاذبة (اليمين الغموس) -والعياذ بالله-؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: "ولهذا إذا كانت اليمين غموسًا، كانت من الكبائر الموجبة للنار، كما قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران: 77)، وذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في عدِّ الكبائر، وذلك أنه إذا تعمد أن يعقد بالله ما ليس منعقدًا به فقد نقص الصلة التي بينه وبين ربه، بمنزلة مَن أخبر عن الله بما هو منزَّه عنه أو تبرأ من الله.
أنواع اليمين:
- اليمين ثلاثة أقسام: يمين لغو، ويمين منعقدة، ويمين غموس.
- فأما يمين اللغو: فهي الحلف من غير قصد اليمين، كقول الرجل حينما يسأل عن حاله: أنا والله بخير؛ فهو لا يقصد الحلف؛ ولذلك لا يؤاخذ عليه، ولا كفارة فيه: قال -تعالى-: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (البقرة: 225).
- وأما اليمين المنعقدة: فهي اليمين التي يقصدها الحالف، وتكون على أمر مستقبل أن يُفعل أو يُترك، ويؤكد ويصر عليها؛ فهي يمين متعمدة مقصودة وليست لغوًا يجري على اللسان: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ) (المائدة: 89).
- وهذه اليمين فيها الكفارة إذا حنث: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا؛ فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (المائدة: 89).
- وأما اليمين الغموس: فهي تلك اليمين التي يحلفها الرجل، وهو يعلم أنه كاذب فيها، وإثمها يشتد وجرمها يعظم إذا اقترنت بأخذ مال امرئ مسلم بغير حق. قال المنذري: "سميت غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم في الدنيا وفي النار في الآخرة"، وهذه اليمين الغموس لا كفارة فيها عند جمهور الفقهاء.
الترهيب من اليمين الكاذبة:
- لقد عظم الإسلام شأن اليمين، وحذر من التساهل بها؛ لأنها عهد وميثاق يجب أن يُعطى حقه: قال الله -تعالى-: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) (المائدة: 89). قال القرطبي: "المعنى: أقلوا الأيمان؛ لما فيه من البر والتقوى؛ فإن الإكثار يكون معه الحنث، وقلة رعي لحق الله -تعالى-".
- صاحب الأيمان الكاذبة قدوته في ذلك إبليس: فهو أول من سن اليمين الكاذبة يوم أن حلف لآدم وحواء أنه لهما لمن الناصحين؛ قال -تعالى-: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف: 21).
- الأيمان الكاذبة شعار أهل النفاق: قال -تعالى-: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ) (التوبة: 74)، وقال عنهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (المجادلة: 14).
- وقد أنزل الله في أصحاب اليمين الغموس قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة يبيِّن عقوبتهم في الآخرة: فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ)، فأنزل الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران: 77). فَجَاءَ الْأَشْعَثُ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فِيَّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي، فَقَالَ لِي: شُهُودَكَ، قُلْتُ: مَا لِي شُهُودٌ، قَالَ: فَيَمِينُهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا يَحْلِفَ، فَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيثَ، فَأَنْزَلَ اللهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ. (متفق عليه).
- قصة من واقع الحياة: أحدهم كان بينه وبين من يدعي عليه بمبلغ مالي كبير مجلس قضائي، وقد أنكر المدعى عليه المبلغ كليًّا، فطلب منه القاضي اليمين في تلك اللحظة لعدم توفر البينة لدى المدعي، فقام المدعى عليه وردد اليمين كاذبًا خلف القاضي، وخرج مزهوًّا بنفسه وبنصره، والآخر يدعو عليه. وما هي إلا لحظات ويصاب بعدها حالف اليمين بحادث مروري مروع، أصيب فيه بعدة إصابات خطيرة أدخل على إثرها للعناية المركزة؛ فسارع وهو في العناية المركزة وطلب من أقاربه إعادة المبلغ لصاحبه حيث اعترف أنه حلف يمينًا كاذبة.
- هناك مِن الناس مَن يتورع عن الأمور الكبيرة والأموال الطائلة، لكنه قد يقع في أمور يظن أنها من المحقرات، ولا يدري المسكين خطورة ذلك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَان شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللِه؟ قَالَ: (وإنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ) (رواه مسلم).
- ومن أكثر ما يكون من صور ذلك خطورة: تلك الأيمان الكاذبة في البيع والشراء؛ فعن أبي ذرٍّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارٍ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ) (رواه مسلم).
- ما يلزم مَن حلف اليمين الغموس؟ قال العلماء: تلزمه التوبة الصحيحة بشروطها، مع رد الحقوق لأصحابها، واختلفوا في لزوم الكفارة عليه؛ فجماهير السلف والخلف على عدم الكفارة؛ لأن ذنبه أعظم من ذلك؛ قال ابن مسعود: "كُنَّا نَعُدُّ الذَّنْبَ الَّذِي لَا كَفَّارَةَ لَهُ الْيَمِين الْغَمُوس". وعن سعيد بن المسيب قال: "هي من الكبائر وهي أعظم من أن تكفر" (نقله ابن قدامة في المغني).
- تنبيهات مهمة: قد يتحايل بعض الناس على اليمين الغموس، فيحلف فيكذب إذا استحلف، يظنه من التعريض الجائز، ولا يدري أن اليمين على نية المُسْتَحْلِفِ وليس على نية الحالف، ولا يجوز التورية فيه؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ) (رواه مسلم). وفي رواية: (يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ) (رواه مسلم). قال النووي: "إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا فَحَلَّفَهُ الْقَاضِي فَحَلَفَ وَوَرَّى فَنَوَى غَيْرَ مَا نَوَى الْقَاضِي؛ اِنْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَاهُ الْقَاضِي وَلَا تَنْفَعُهُ التَّوْرِيَةُ".
- ولا يجوز الحلف بغير الله -عز وجل-، وهو من الشرك: (والأمانة، وشرفي، والذمة، والنعمة، ورأس أبي، وحق هذا الطعام، ونحو ذلك): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ حَلَفَ بِالأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). وقال عبد الله بن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقًا". قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- معلقًا على كلام ابن مسعود: "لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك".
خاتمة: إن شأن اليمين عند الله عظيم، والتساهل بها أمر جسيم؛ فليست اليمين مجرد كلمة تمر على اللسان، ولكنها عهد وميثاق سيسأل عنه العبد يوم القيامة، فينبغي للمؤمن أن يعظم اليمين، خاصة في باب الأموال والحقوق، ولو كانت يسيرة، ويوقر الله، ويكون صادقًا، ولا يحلف إلا على حق ثابت كالشمس. وقد كان كثير من أهل الورع يتوقون الحلف في الخصومة عند الحاكم، ولو أفضى ذلك بهم إلى التنازل عن حقهم؛ خشية الوقوع في الوعيد.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.