كتبه/ سامح بسيوني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمن الأسباب الشرعية الداعية لإقامة العمل الجماعي:
5- العمل المؤسسي الإصلاحي التعاوني هو سلوك أهل الصلاح والإصلاح عبر القرون والأزمنة، مهما تميزت القدرات أو تفاوتت الإمكانات، كـما جاء ذلك في بيان قصة ذي القرنين عند بنائه للسد حين أراد أن يمنع فساد يأجوج ومأجوج عن الناس إصلاحًا منه في الأرض، وقصدًا منه للخير، ولقد سجل القرآن له هذه الكلمات التي قالها؛ لما في هذا الموقف من تأصيل للعمل الإصلاحي الجماعي اللازم لتحقيق الإصلاح المنشود ودفع الظلم والفساد الموجود، حيث قال الله -تعالى-: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا . قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا . قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا . آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا . فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) (الكهف: 93-97).
فقد جاءت تلك الكلمات: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) على لسان ذي القرنين؛ وهو مَن هو في قدرته وقوته وتمكنه من النفوذ في أقطار الأرض وقيادة الناس، كما قال الله -تعالى- واصفًا إياه: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) (الكهف: 84)، أي: أنه قد حاز كلَّ أسباب القدرة والقوة الفردية لبسط نفوذه وسلطانه وامتداد تأثيره فيمن حوله، كما بيَّن ذلك السعدي في تفسيره: "مكَّنه من النفوذ في أقطار الأرض، وانقيادهم له، وأعطاه الله من الأسباب الموصلة له لما وصل إليه، ما به يستعين على قهر البلدان، وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران"، لكنه مع كل هذا قد أصَّل لقاعدة تأسيسية في أهمية العمل الإصلاحي الجماعي بطلبه التعاون مع قوم أقل منه بكثير في القدرات والمهارات والإمكانيات كما وصفهم الله -تعالى- بقوله: (قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) أي: استعجمت ألسنتهم وأذهانهم وقلوبهم.
فجاءت هذه الكلمة لتتحدى وتواجه بعض مَن يتبنون المنهج الفردي في الإصلاح، بل ويدعون غيرهم إليه! متعللين في ذلك بالمحافظة على التميز للشخص في مجال من المجالات التي يعمل بها، لا سيما مع وجود تفاوتٍ في القدرات بينه وبين غيره من الأفراد، وظنه أن المحافظة على التميز لا بد فيها من الانفرادية وعدم الارتباط بكيان جماعي يقيد حركته، أو مع شعوره -كما يظن هو- أنه لا يوجد في أفراد هذا الكيان من يتميز عنه في هذا المجال أو يستطيع أن يحل محله، أو اعتقادًا منه أن انفراديته تتيح له مساحات عمل أكبر تحقق نتائج أعلى من كونه مرتبطًا بكيان إصلاحي جماعي، مما يُكوِّن عنده قناعة غير صحيحة ومبررًا واهيًا للانسلاخ من العمل الإصلاحي الجماعي.
والحقيقة: أننا لو تأملنا الآية -كما بيناها عاليه-؛ لوجدنا أنها تدحض هذه الشبهة من أصلها؛ فها هو ذو القرنين -والذي أوتي من كل شيء سببًا ومُكِّن له في الأرض- يضع قدراته ومهاراته وما أوتي من أسباب جنبًا إلى جنب مع قدرات من هم أقل منه شأنًا وفهمًا وقدرة ليحدثوا ذلك التكامل المنشود في بناء السد، بغرض إحداث الإصلاح المنشود، ومنع الفساد المحظور من يأجوج ومأجوج.
فهم: يجمعون قِطَعَ الحديد، وهو: يساويها.
هم: يوقدون النار وينفخون عليها، وهو: يفرغ النحاس على الحديد ليصنع السبيكة.
وهكذا في مشهد تعاوني إصلاحي جماعي رائع مستغلًا لهذه القدرات المتفاوتة، محقِّقًا للهدف المنشود بنتيجة أعلى مما كان يتصور صاحبها حين سعى لبناء هذا السد؛ حيث منع هذا البناء -بفضل الله- ثم ببركة هذا العمل الجماعي الإصلاحي الرائع فساد قوم يأجوج ومأجوج عن البشرية جمعاء، وسيظل كذلك حتى يأذن الله -تعالى- في خروجهم مرة أخرى كعلامة من علامات الساعة.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.