الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 15 يوليه 2024 - 9 محرم 1446هـ

الصوفية من الزهد إلى الحلول إلى الاتحاد إلى وحدة الوجود (2) التصوف إلى نهاية القرن الثالث

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قدمنا في المقالة السابقة أن أواخر القرن الثاني الهجري شهد بعض صور الاهتمام ثم الغلو في الزهد الذي عُرِف في بدايات القرن الثالث باسم التصوف، ولكنه في نهايات القرن الثالث ظهرت انحرافات شديدة مَثَّلها بوضوح "الحلاج"، وذكرنا أننا سنخصص لكلِّ مرحلة مقالًا.

وسوف نتناول في هذا المقال مظاهر وأفكار التصوف إلى نهاية القرن الثالث، ومِن أكثر مَن تكلم عن الصوفية بعدل وإنصاف شيخ الإسلام ابن تيمية، فمع حملته الشديدة على كل بدعهم "وخاصة الانحراف الكفري لدى الحلولية والاتحادية"؛ إلا أنه لم يعمم قط في أحكامه عليهم ولا على غيرهم، ولم يحاكِم أحدًا إلا إلى كلامه وأفعاله، بل ومع العذر متى وَجَد إليه سبيلًا، وقد استعرض -رحمه الله- هذا التاريخ في أكثر من موضع من كتبه، منها: الفتوى الواردة في مجموع الفتاوى في الجزء الحادي عشر من (ص 5 إلى ص 24)، وهذا ملخصها لخصته بالحذف والتنسيق (وما كان من إضافة فقد وضعتها بين قوسين).

"سُئِلَ شَيْخُ الإسلام -قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- عَنْ: "الصُّوفِيَّةِ" وَأَنَّهُمْ أَقْسَامٌ، "وَالْفُقَرَاءُ" أَقْسَامٌ، فَمَا صِفَةُ كُلِّ قِسْمٍ؟ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْلُكَهُ؟

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ:

1- أَمَّا لَفْظُ: "الصُّوفِيَّةِ"؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا اُشْتُهِرَ التَّكَلُّمُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ (قلتُ: هنا يعني مصطلح التصوف).

2- وَقَدْ نُقِلَ التَّكَلُّمُ بِهِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالشُّيُوخِ: كَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، الداراني، وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ (قلتُ: هنا يعني ظهور عناية ببعض الموضوعات التي سميت لاحقًا تصوفًا).

3- وَقِيلَ -وَهُوَ الْمَعْرُوفُ-: إنَّه نِسْبَةٌ إلَى لُبْسِ الصُّوفِ.

4- فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا ظَهَرَتْ الصُّوفِيَّةُ مِنْ الْبَصْرَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ بَنَى دويرة الصُّوفِيَّةِ بَعْضُ أَصْحَابِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ، وَكَانَ فِي الْبَصْرَةِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْخَوْفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، ما لَمْ يَكُنْ فِي سَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ؛ وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ: فِقْهٌ كُوفِيٌّ، وَعِبَادَةٌ بَصْرِيَّةٌ.

5- وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا يُفَضِّلُونَ لِبَاسَ الصُّوفِ، فَقَالَ: إنَّ قَوْمًا يَتَخَيَّرُونَ الصُّوفَ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ مُتَشَبِّهُونَ بِالْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَهَدْيُ نَبِيِّنَا أَحَبُّ إلَيْنَا، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَلْبَسُ الْقُطْنَ وَغَيْرَهُ، أَوْ كَلَامًا نَحْوًا مِنْ هَذَا (قلتُ: وفي هذا دلالة أن بوادر الغلو في الزهد حتى قبل أن تسمَّى تصوفًا، قد أنكرها أئمة الدِّين).

6- وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يُحْكَى مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، إنَّمَا هُوَ عَنْ عُبَّادِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِثْلُ حِكَايَةِ مَنْ مَاتَ أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِ فِي سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَنَحْوِهِ، كَقِصَّةِ زرارة بْنِ أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ؛ فَإِنَّهُ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) (المدثر: 8)، فَخَرَّ مَيِّتًا، وَكَقِصَّةِ أَبِي جَهِيرٍ الْأَعْمَى الَّذِي قَرَأَ عَلَيْهِ صَالِحُ المري فَمَاتَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ رُوِيَ أَنَّهُمْ مَاتُوا بِاسْتِمَاعِ قِرَاءَتِهِ، وَكَانَ فِيهِمْ طَوَائِفُ يُصْعَقُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ هَذَا حَالُهُ! (قلتُ: وفيه بيان: أن هذه الأحوال مخالفة لحال السلف، وإن كان الشيخ قد مال إلى أن بعضهم يُغلَب على هذا، ومِن ثَمَّ قال بعذر مَن هذه حاله -كما سيأتي-).

7- فَلَمَّا ظَهَرَ ذَلِكَ، أَنْكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: كَأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين، وَنَحْوِهِمْ (قلتُ: وهذا إنكار لمظهر آخر من مظاهر الغلو في الزهد والعبادة).

8- وَالْمُنْكِرُونَ لَهُمْ مَأْخَذَانِ:

8- أ: مِنْهُمْ مَنْ ظَنَّ ذَلِكَ تَكَلُّفًا وَتَصَنُّعًا؛ يُذْكَرُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين أَنَّهُ قَالَ: مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُصْعَقُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إلَّا أَنْ يُقْرَأَ عَلَى أَحَدِهِمْ وَهُوَ عَلَى حَائِطٍ، فَإِنْ خَرَّ فَهُوَ صَادِقٌ (قلتُ: ما أحوجنا إلى أن نجري هذا الاختبار على مدعي التصوف!).

8- ب: وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ بِدْعَةً مُخَالِفًا لِمَا عُرِفَ مِنْ هَدْيِ الصَّحَابَةِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ أَسْمَاءَ وَابْنِهَا عَبْدِ اللَّهِ.

8- ج: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ إذَا كَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَالُ الثَّابِتِ أَكْمَلَ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ هَذَا. فَقَالَ: قُرِئَ الْقُرْآنُ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَلَوْ قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ لَدَفَعَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، فَمَا رَأَيْت أَعْقَلَ مِنْهُ، وَنَحْوَ هَذَا. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَصَابَهُ ذَلِكَ، وَعَلِيُّ بْنُ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ قِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ.

8- د: وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا حَصَلَ لَهُمْ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ أَكْمَلُ مِنْهُ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ.

8- هـ: وَهَذِهِ حَالُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَهُوَ حَالُ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَإِنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ، وَأَرَاهُ اللَّهُ مَا أَرَاهُ، وَأَصْبَحَ كَبَائِتِ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ حَالُهُ؛ فَحَالُهُ أَفْضَلُ مِنْ حَالِ مُوسَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي خَرَّ صَعِقًا لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ، وَحَالُ مُوسَى حَالٌ جَلِيلَةٌ عَلِيَّةٌ فَاضِلَةٌ، لَكِنَّ حَالَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَكْمَلُ وَأَعْلَى وَأَفْضَلُ (قلتُ: ولكننا نعلم أن ما تعرَّض له موسى كان أمرًا عظيمًا جللًا، وليس كقراءة القرآن أو ترديد الأذكار، فحال موسى -عليه السلام- من أكمل الحالات، وحال محمد -صلى الله عليه وسلم- أكمل منها، وحال الصحابة حسنة مشروعة، وحال مَن يصعقون ناقصة، فإن كان الصعق اضطراريًّا فهو نقص معفو عنه، وإن كان بافتعال فهو نقص يؤاخذ به صاحبه).

9- وَلِأَجْلِ مَا وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالتَّنَازُعِ فِيهِ، تَنَازَعَ النَّاسُ فِي طَرِيقِهِمْ:

9- أ: فَطَائِفَةٌ ذَمَّتْ "الصُّوفِيَّةَ وَالتَّصَوُّفَ"، وَقَالُوا: إنَّهُمْ مُبْتَدِعُونَ خَارِجُونَ عَنْ السُّنَّةِ، وَنُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ.

9- ب: وَطَائِفَةٌ غَلَتْ فِيهِمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْمَلُهُمْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ.

9-ج: وَكِلَا طَرَفَيْ هَذِهِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ، و"الصَّوَابُ" أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا اجْتَهَدَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ، فَفِيهِمْ السَّابِقُ الْمُقَرَّبُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ، وَفِيهِمْ الْمُقْتَصِدُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ وَفِي كُلٍّ مِنْ الصِّنْفَيْنِ مَنْ قَدْ يَجْتَهِدُ فَيُخْطِئُ، وَفِيهِمْ مَنْ يُذْنِبُ فَيَتُوبُ أَوْ لَا يَتُوبُ، وَمِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ مَنْ هُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، عَاصٍ لِرَبِّهِ.

9- د: وَقَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالزَّنْدَقَةِ، وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ لَيْسُوا مِنْهُمْ: كَالْحَلَّاجِ -مَثَلًا-؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ أَنْكَرُوهُ وَأَخْرَجُوهُ عَنْ الطَّرِيقِ، مِثْلُ: الْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ، وَغَيْرِهِ. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي؛ فِي "طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ"، وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ؛ فَهَذَا أَصْلُ التَّصَوُّفِ، ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَشَعَّبَ وَتَنَوَّعَ" (انتهى باختصارٍ).

وكتتمة للفائدة، سنورد أسماء أشهر مَن يَرِد ذكرهم مِن رموز الزهد أو الصوفية؛ سواء نُسِبوا للتصوف، أو كثر النقل عنهم في الزهد والسلوك حتى وفيات القرن الثالث:

1- الحسن بن يسار البصري (ت: 110هـ): إمام من أئمة التابعين من أعلام السُّنة، وكلامه في الزهد في غاية الانضباط، وذكره ابن تيمية ضمن العلماء الذين أُخِذ عنهم الزهد، ولم يتمكن الصوفية من الكذب عليه إلا بزعم التعلُّم العلم منه، دون أن يسندوا إليه تفصيلًا أيًّا مِن أقوالهم أو عقائدهم.

2- محمد بن واسع (ت: 123هـ): من التابعين، ومن كبار أصحاب الحسن البصري.

3- أيوب السختياني (ت: 131هـ).

وثابت البناني (ت: 123هـ)، وعبد الله بن عون (ت: 150هـ)، من تلاميذ الحسن البصري وعلى طريقته، وتواريخ وفياتهم متقاربة؛ قال فيهم ابن تيمية: "وأما الأئمة من أصحاب الحسن: كأيوب السِّخْتياني، وثابت البُنَاني، وعبد الله بن عون، وغيرهم؛ فهؤلاء سالمون مما يُذم ممَّن رُمي ببدعةٍ من أصحابه.

وكان الحسن جليل القدر في العلم والعمل، فكان يسوس الناس في حياته، فلما مات صار بعضُهم يأخذ ما يوافق هواه من كلامه، ويدع ما لا يوافق هواه، فصار في بعضهم بدعة وتفرُّق من هذا الوجه، وكان بين هؤلاء وهؤلاء نزاع في أمور" (الرد على الشاذلي، ص 130).

4- عتبة الغلام وعطاء السليمي.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وكان عتبة الغلام سأل ربه ثلاث خصال: صوتًا حسنًا، ودمعًا غزيرًا، وطعامًا من غير تكلُّف. فكان إذا قرأ بكى وأبكى، ودموعه جارية دهره، وكان يأوي إلى منزله فيصيب فيه قُوتَه ولا يدري من أين يأتيه" (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ص 165).

بيد أنه اعتبر شدة خوفه بداية لظهور نزعات صوفية، فقال في مجموع الفتاوى (11/ 13): "الْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي فِيهَا زِيَادَةٌ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْأَحْوَالِ خَرَجَتْ مِنْ الْبَصْرَةِ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْخَوْفِ، فَإِنَّ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ ِمنْ خَوْفِ عَتَبَةِ الْغُلَامِ، وَعَطَاءِ السُّلَيْمِيِّ، وَأَمْثَالِهِمَا، أَمْرٌ عَظِيمٌ".

5- مالك بن دينار (ت: 131هـ): من تلاميذ الحسن البصري وعلى طريقته، وذكره ابن تيمية ضمن خيار تلاميذ الحسن البصري.

6- ‌فَرْقَدٍ ‌السَّبَخِي (ت: 131هـ): من تلاميذ الحسن البصري وعلى طريقته، وذكره ابن تيمية ضمن خيار تلاميذ الحسن البصري.

6- أبو هاشم الكوفي (ت: 160هـ): على طريقة الزهد السني.

7- سفيان الثوري (ت: 161هـ): إمام في الزهد والحديث والفقه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وَقَالُوا لِلْإِمَامِ أَحْمَد: مَنْ أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَالِكٌ أَمْ سُفْيَانُ؟ فَقَالَ: بَلْ مَالِكٌ. فَقِيلَ لَهُ: أَيُّمَا أَعْلَمُ بِآثَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَالِكٌ أَمْ سُفْيَانُ؟ فَقَالَ: بَلْ مَالِكٌ. فَقِيلَ لَهُ: أَيُّمَا أَزْهَدُ مَالِكٌ أَمْ سُفْيَانُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ لَكُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ أَعْلَمُ أَهْلِ الْعِرَاقِ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيَّ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنَ بْنَ صَالِحِ بْنِ حي، وَشَرِيكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِي الْقَاضِي، كَانُوا مُتَقَارِبِينَ فِي الْعَصْرِ، وَهُمْ أَئِمَّةُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ" (مجموع الفتاوى، 20/ 329).

8- إبراهيم بن أدهم (ت: 162هـ): من خيرة الزهاد والعباد والمجاهدين؛ ذكره ابن تيمية مرارًا ضمن أئمة الزهد المستقيمين، ومن ذلك: قوله في كتاب الرد على الشاذلي (ص 73): "والمشايخ المستقيمون: كالفُضيل بن عِياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكَرْخي، وأمثالهم هم المتبعون للكتاب والسنة، والصوفية المتبعون لهم هم صوفية أهل السنة والحديث في اعتقادهم وفي عملهم، فهم يؤمنون بما أخبر به الرسول، ويَمْتَثلون ما أمر به يصدقونه في خبره، ويطيعونه في أمره، ومن كان كذلك فهو من أولياء الله المتقين الذين لا خوفٌ عليهم، ولا هم يحزنون".

ومع هذا يكثر في كتب الصوفية ذكر بداية دخوله في طريق التصوف، وأنه سمع منادٍ فهام في الصحراء، ودخل على راهب فأخذ عنه، وأنه لقي الخضر -عليه السلام- فعلَّمه اسم الله الأعظم، وفي بعض رواياتهم أنه لقي إلياس -عليه السلام-، ولو صحت هذه القصص عنه؛ لكان بذلك مفتتح باب الابتداع، والتحول من الزهد الى التصوف، لكنها لا تصح كما قال ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية" في ترجمة إبراهيم بن أدهم.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وذكر أبو نعيم وغيره: أنه كان ابن ملك من ملوك خراسان، وكان قد حبب إليه الصيد، قال: فخرجتُ مرة فأثرت ثعلبًا فهتف بي هاتف من قربوس سرجي: ما لهذا خُلِقَت، ولا بهذا أُمِرت. قال: فوقفت وقلتُ: انتهيتُ انتهيتُ، جاءني نذير من رب العالمين.

فرجعتُ إلى أهلي، فخليت عن فرسي، وجئت إلى بعض رعاة أبي، فأخذت منه جبة وكساء ثم ألقيت ثيابي إليه، ثم أقبلت إلى العراق فعملت بها أيامًا فلم يصفُ لي بها الحلال، فسألت بعض المشايخ عن الحلال فأرشدني إلى بلاد الشام، فأتيت طرطوس فعملت بها أيامًا أنطر البساتين وأحصد الحصاد، وكان يقول: ما تهنَّيتُ بالعيش إلا في بلاد الشام، أفر بديني من شاهق إلى شاهق، ومن جبل إلى جبل، فمن يراني يقول: هو موسوس.

ثم دخل البادية ودخل مكة، وصحب الثوري والفضل بن عياض، ودخل الشام ومات بها، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه، مثل: الحصاد، وعمل الفاعل، وحفظ البستان، وغير ذلك.

وما روي عنه أنه وَجَد رجلًا في البادية فعلَّمه اسم الله الأعظم فكان يدعو به حتى رأى الخضر، فقال له: إنما علمك أخي داود اسم الله الأعظم؛ ذكره القشيري وابن عساكر عنه بإسناد لا يصح. وفيه أنه قال له: إن إلياس علمك اسم الله الأعظم" (البداية والنهاية، 10/ 387).

9- دواد الطائي (ت: 165هـ): على طريقة الزهد السني.

10- عبد الواحد بن زيد (ت: 177هـ)؛ قال فيه ابن تيمية: "فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا ظَهَرَتْ الصُّوفِيَّةُ مِنْ الْبَصْرَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ بَنَى دويرة الصُّوفِيَّةِ بَعْضُ أَصْحَابِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ".

11- رابعة العدوية (ت: 180هـ): عابدة صالحة، نُسِبت إليها أقوال في الحب الإلهي، وازدراء عبادات الخوف والرجاء، وقد برأها ابن تيمية من هذا، وفي الواقع فإن المتتبع يرى أن لابن تيمية فراسة خاصة فيمن نُسِبت إليه بدعة ممَّن عُرِف عنه الصلاح، فقد يحاكم البعض بها، وقد يثبتها للبعض ويلتمس له المعاذير، وقد يقرر أنها مكذوبة أصلًا كما فعل مع رابعة.

12- عبد الله بن المبارك (ت: 181هـ): إمام في الحديث والفقه، والجهاد والمرابطة.

13- الفضيل بن عياض (ت: 187هـ): إمام في الزهد والورع على طريقة سنية.

14- شَقِيق البَلْخي (ت: 194هـ): على طريقة الزهد السني.

ويروي الصوفية له قصة طويلة شبيهة بقصة أستاذه إبراهيم بن أدهم، ولكنهم في هذه المرة يذكرون لقاءه بموسى الكاظم، ففيها بدايات ربط التصوف بالشيعة، وهي رابطة موجودة بالفعل، ولكن أصحابها ترويجًا لها، حاولوا نسبتها كذبًا لبعض أئمة الزهد السني؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب منهاج السنة النبوية (4/ 57) بعد أن أورد تلك القصة: "وَأَمَّا الْحِكَايَةُ الْمَذْكُورَةُ عَنْ شَقِيقٍ الْبَلْخِيِّ فَكَذِبٌ".

15- جابر بن حيان (ت: 196هـ): صاحب الكيميا، متهم بالتشيع ومتهم بتصوف ممزوج ببدع فارسية وهندية؛ قال فيه ابن تيمية في كتاب "النبوات": "وَأَمَّا جَابِرُ بْنُ حَيَّانَ، صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْكِيمَاوِيَّةِ: فَمَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ، وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ".

فيمكننا أن نعتبره من البدايات الأولى للانحراف، ولكنه انحراف فردي، أو كما يقولون في زمنه: قبل صوفي، ولم يكن قد قيل: "صوفية" بالجمع بعد.

16- معروف الكرخي (ت: 200هـ): على طريقة الزهد السني.

17- عبدك الصوفي (ت: 210هـ): منافس لجابر بن حيان في تهمة بدايات مزج الزهد بالفلسفات القديمة.

18- أبو سليمان الداراني (ت: 215هـ): إمام في الزهد السني.

19- بشر بن الحارث الحافي (ت: 227هـ): على طريقة الزهد السني.

20- الحارث المحاسبي (ت: 243هـ): معاصر للإمام أحمد يمثل بدايات الانشغال بالتفتيش في النفس للبحث عن عيوبها، مع شيء من عدم الالتزام بمرجعية الكتاب والسنة في هذا الباب.

ولكنه يمثِّل أيضًا على صعيد آخر بدايات علم الكلام؛ لأنه مال لقول ابن كلاب؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموعة الرسائل والمسائل التي جمعها "رشيد رضا" (3/ 74): "وهذا الأصل هو مما أنكره الإمام أحمد على ابن كلاب وأصحابه، حتى على الحارث المحاسبي مع جلالة قدر الحارث، وأمر أحمد بهجره وهجر الكلابية، وقال: احذروا من حارث، الآفة كلها من حارث، فمات الحارث وما صلى عليه إلا نفر قليل بسبب تحذير الإمام أحمد عنه، مع أن فيه من العلم والدين ما هو أفضل مِن عامة مَن وافق ابن كلاب على هذا الأصل. وقد قيل: إن الحارث رجع عن ذلك، وأقر بأن الله يتكلم بصوت كما حكى عنه ذلك صاحب التعرف لمذهب التصوف، أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي.

وكثير من المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وافقوا ابن كلاب على هذا الأصل، كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع آخر".

21- ذو النون المصري (ت: 245هـ): متهم بمزج الزهد بنظرية الإشراق الأفلاطونية، وابن تيمية يحسن به الظن، وذكر قصة في حضوره لمجلس سماع وغناء، ووَجْد صوفي، فتأولها له.

قال ابن تيمية في كتاب الاستقامة بعد ذكر هذه القصة: "فَهَذَا وَنَحْوه هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأَئِمَّة: كالشافعي فِي قَوْله: خلفتُ بِبَغْدَاد شَيْئا أحدثته الزَّنَادِقَة يسمونه: التغبير، يصدون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن. فَيكون ذُو النُّون هُوَ أحد الَّذين حَضَرُوا التغبير الَّذِي أنكرهُ الْأَئِمَّة وشيوخ السّلف، وَيكون هُوَ أحد المتأولين فِي ذَلِك. وَقَوله فِيهِ كَقَوْل شُيُوخ الْكُوفَة وعلمائها فِي النَّبِيذ".

وللعلم لم يكن معروفًا عنه غير ذلك؛ غير أن كتبه التي وصلتْ إلينا؛ لا سيما تلك التي حرص المستشرقون على نشرها تدل على أنه مزج الزهد بنظرية الإشراق الأفلاطونية، فعلى الأقل سنتعامل مع كتبه مستصحبين هذا الخطر.

22- سري السقطي (ت: 251هـ): على طريقة الزهد السني.

23-أبو اليزيد البسطامي (ت: 264هـ): صاحب شطحات حلولية واتحادية (سنفرد لها مقالة -بإذن الله-).

24- أبو حفص الحداد (ت: 265هـ): على طريقة الزهد السني.

25- حمدون القصار (ت: 271هـ): يُنسَب إليه مَن يسمون بالملامتية، وإليهم تُعزَى بعض البدع العملية، وإظهار المعاصي هربًا من مدح الناس (قيل: كان يتظاهرون بفعلها دون أن يفعلوها بالفعل، وقيل: كان هذا أحد الأبواب التي آلت إلى القول بسقوط التكليف).

26- سهل التستري (ت: 283هـ): على طريقة الزهد السني.

27- الجنيد (ت: 297هـ): يلقبه الصوفية بسيد الطائفة، ويجمعون على أنه مرجع في ضبط ظاهر الشرع؛ حتى المنحرفين منهم يعتبرون أنه يجب ضبط ظواهرهم بما يُؤثَر عن الجنيد، وإن اعتمدوا كلام غيره في الباطن.

28- أبو الحسين النوري (ت: 295هـ): على طريقة الزهد السني.

28- عمرو بن عثمان المكي (ت: 297هـ): على طريقة الزهد السني.

29- أبو سعيد الخراز (ت: 297هـ): على طريقة الزهد السني.

30- الحلاج (ت: 309هـ): قُتِل رِدَّة لقوله بالحلول.

31- الشبلي (ت: 334هـ): كان معاصرًا لأبي اليزيد البسطامي، وعلى طريقته.

الخلاصة:

- من بين هذه الأسماء تبرز أسماء سنية خالصة: كالحسن البصري، ومحمد بن واسع، ومعظم تلاميذ الحسن.

- وأسماء يمكن أن يُنقَل عنها ما يُنكَر: كعبد الواحد بن زيد، والحارث المحاسبي.

- كما تبرز أسماء نُسِبت إليها انحرافات مبكرة وشديدة مع ثناء السلف أو محققي السلفية عليهم، مثل: رابعة العدوية، وإبراهيم بن أدهم، وشقيق البلخي، وعند التحقيق نجد أن ما نُسِب إليهم مكذوب عليهم.

- كما تبرز أسماء غامضة نَسَب إليها متأخرو الصوفية حكايات متأثرة بالفلسفات الشرقية، ولم يُعرَف عنهم الاشتغال بالعلم، ولا الدعوة إلى السنة؛ مما يجعل التهمة قريبة منهم، مثل: جابر بن حيان، وعبدك الصوفي، وحمدون القصار.

ويأتي اسم "ذو النون المصري"، وكلامه يحمل دلائل كبيرة لتأثره بالفلسفة الأفلاطونية، ولكن مثل هذه التوجهات لم تنتشر في صوفية زمانه؛ إلا لو اعتبرنا أن له دورًا في جرأة الحلاج على ما ادعاه، وعمومًا الكتب والأقوال المنسوبة لذي النون المصري يجب أن تُعامَل بحذر شديد، وأن يُتوقع أن يكون فيها مخالفات؛ بغض النظر عن مصدرها، وإن كان غالب الظن أن مصدر هذه المخالفات كان فلسلفيًّا.

- وتبرز معنا أسماء أصحاب الشطحات، وعلى رأسهم: أبو اليزيد البسطامي، والشبلي.

- وبالطبع كان الانحراف الأكبر: القول بالحلول والاتحاد على يد "الحلاج".

وفى وسط هذا الصعود المفاجئ لانحرافاتٍ كبرى؛ سواء بالشطح، أو بالقول بالحلول حال الصحو؛ ظهر "الجنيد" كإمام صوفي يرد على ذلك، ويتمسك بما يمكن أن نسميه: صوفية القرن الثاني، وبالتالي حرص معظم صوفية القرن الرابع على نفي الانتساب لأصحاب الشطحات والحلول، وأثبتوا الانتساب إلى الجنيد، فعُدَّ إمام الطائفة.

ونكتفي بهذا القَدْر من استعراض الفكر الصوفي في القرنين: الثاني والثالث.

ونتناول شطحات "أبي اليزيد البسطامي" في المقالة التالية -بإذن الله تعالى-.