الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 09 يوليه 2024 - 3 محرم 1446هـ

الصوفية من الزهد إلى الحلول إلى الاتحاد إلى وحدة الوجود ودور المستشرقين في إحياء هذه الأقوال الكفرية (1)

مجمل تاريخ التصوف

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

نستعرض في هذه السلسلة بإيجاز شديد، تاريخ التصوف والأطوار التي مرَّ بها:

أولًا: هل الزهد ومجاهدة النفس فرع من فروع العلوم الشرعية؟ وهل أغفله أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم؟

الإجابة الصحيحة: أن كل ما ورد في الكتاب والسنة هو من دين الله -عز وجل-، وكله يُرجَع فيه إلى الكتاب والسنة، وكانت الأمة تتلقى القرآن؛ تلاوة وتفسيرًا، جيلًا عن جيل، وأما الحديث فتصدَّى له حملة الحديث، فبذلوا أعمارهم في جمعه، وقدَّموا نصوص هذه الأحاديث لمن فتح الله عليه في باب الفهم والفقه في دين الله.

والفقه في اصطلاح الجيل الأول، كان يعنى في الزمن الأول: معرفة دين الله كله، فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌مَنْ ‌يُرِدِ ‌اللهُ ‌بِهِ ‌خَيْرًا ‌يُفَقِّهْهُ ‌فِي ‌الدِّينِ) (متفق عليه)، ليس قاصرًا على الأحكام العملية، بل دخول مسائل الاعتقاد والسلوك فيه قد يكون أولى؛ ولذلك سمَّى الإمام أبو حنيفة كتابه في الاعتقاد بـ"الفقه الأكبر".

بيد أن مسائل العبادات والمعاملات كثيرة الفروع من جهة الواقع، فأداء العبادة يشمل أركانًا وواجبات ومستحبات، وبالتالي فقد يكون تعلم كيفية العبادة في غاية اليسر، ولكن تتفرع كثير من المسائل بناءً على مَن نسِيَ أو جهل، أو أخطأ وتكاسل، واختلاف حكم كل حالة حسب اختلاف الجزء الذي أصابه الخلل من العبادة، وأما المعاملات؛ فحدِّث ولا حرج عن كثرة ما يقع للناس من قضايا.

ومن هنا تسرب لدى البعض تصور؛ أن الأمة في مراحلها المبكرة كانت عنايتها بالعبادات التي تؤدَّى بالجوارح أعلى من عبادات القلب، وهذا أمر ليس صحيحًا، فكثرة التفريع والفتاوى في عبادات الظاهر كان مرجعه إلى كثرة ما يقع للناس فيها من مشكلات، بينما كان الكلام على إصلاح القلوب وعبادات الباطن يتم تداوله في تفسير القرآن، وشرح السنة، ومواعظ الواعظين.

مدرسة الزهد المنضبط:

طالما وجدت ظاهرة استنزاف طاقة من عرف بالعلم والاجتهاد في أحكام عبادات ومعاملات الجوارح، أو ما عُرِف لاحقًا باسم: "الفقه"، فكان من الطبيعي أن يوجد مَن يحاول أن يعطي في دروسه ومواعظه اهتمامًا أكبر بأعمال القلوب، وبأثرها على الظاهر؛ لا سيما في الزهد الذي ربما لوحظ عدول عنه بعد فتح الأمصار، واستقرار دولة الإسلام، وكثرة الأموال.

وكان من الطبيعي أن يتفاعل العامة مع هذا النوع، وأن تتفرع فها الأسئلة كما تفرعت في عبادات الظاهر، ومِن ثَمَّ أجاب عنها من عُرِف بالاشتغال بالزهد، وإلى هذه اللحظة لا يوجد إشكال.

ويمكن أن يقال: إن أبرز مثال على هذا الاهتمام المنضبط بالزهد، تمثَّل في طريقة الحسن البصري -رحمه الله- وتلامذته.

مدرسة الغلو في العبادة وتعذيب الجسد:

تعذيب الجسد أو الترفع عن حاجاته الفطرية، وقد اعتبرته بعض الديانات الوثنية القديمة نوعًا من الرقي الروحي، وكذلك وقع في الأمم السابقة اعتبار هذه المسالك نوعًا من العبادة التي يُتَقرَّب بها إلى الله، كما قال -تعالى-: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: 27).

وقد حدث ذات هذا الانحراف في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، ‌وَأَتَزَوَّجُ ‌النِّسَاءَ، ‌فَمَنْ ‌رَغِبَ -أعرض- عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) (متفق عليه).

وكان لهذا التوجيه النبوي أثره في عصمة الأمة من هذا الغلو لما وقع فيها، إلى أن وجد ضالته مرة أخرى فيمن جمع بين الرغبة في الزهد وبين البُعد عن تلقي العلم عن فقهاء الأمة -أو قل عن علمائها-، ولا يبعد أثر الاحتكاك بالنصارى أو بمن أسلم من الفُرس، وكان ما زال متأثرًا بما تربَّى عليه.

تنبيه حول الروافد غير الإسلامية للتصوف:

قضية الروافد غير الإسلامية هي إحدى أهم النقاط التي يتعرض لها كل باحث في تاريخ التصوف؛ سواء كان من مؤيديه أو ممَّن يحذر من بدعه، ويكاد يوجد اتفاق على وجود تشابه كبير جدًّا بين التجارب الصوفية؛ سواء التي نشأت كتجارب فلسفية صوفية أو منتسبة إلى الديانات الوثنية القديمة، أو المنتسبة للديانات المحرفة من اليهودية والنصرانية.

والمدافعون عن التصوف: كالتفتازاني -وغيره-، يقولون: إن هذا التشابه لا يدل على أن المتصوفة المسلمين نقلوا تصوفهم أو أخذوه عن الغير.

ولا نريد في هذه المقالة أن ننشغل كثيرًا بهذه الجزئية، ولكن يكفي إثبات هذا التشابه، وأن الصوفية المنتسبين إلى الإسلام كرَّروا بدعًا ابتدعها مَن سبقهم، وذمهم الله على ابتداعها، ومِن ثَمَّ يمكننا أن نقول بوضوح: إن تعذيب الجسد حيلة شيطانية خدع الشيطان بها كثيرًا من الأمم (ولا يهم هنا: هل كانت وسوسته عن طريق شياطين الجن وحدهم أم شاركهم فيها شياطين من الإنس؟).

والأخطر كما سيأتي: أن هذا الانحراف لم يكن نهاية طريق الانحراف، بل كان بداية لانحرافاتٍ أشد ظلامًا؛ قال شيخ الإسلام عنها إنها أكثر كفرًا وفسادًا من كفر اليهود والنصارى.

الفناء "المصطلح الوافد":

المسلم يجب عليه قراءة الفاتحة سبع عشرة مرة -على الأقل- في اليوم والليلة، هي عدد ركعات الصلوات المفروضة، وقلب الفاتحة قوله -تعالى-: (‌إِيَّاكَ ‌نَعْبُدُ ‌وَإِيَّاكَ ‌نَسْتَعِينُ)، فالقرآن يعلمنا أننا عبيدٌ لله، وكما ترى لكي تتصور هذا؛ فلا بد من عبدٍ وربٍّ، ولا يمكن لعاقل أن يتصور (‌إِيَّاكَ ‌نَعْبُدُ) إلا بأن يستحضر الذات الإلهية التي يخاطبها، ويستحضر نفسه التي يتحدث باسمها.

ولكن ماذا عن باقي الخلق؟

كلما (تناسيتهم)؛ كنتَ أصدق تفاعلًا وتأثرًا، وتحقيقًا لـ(‌إِيَّاكَ ‌نَعْبُدُ).

وماذا عن الأسباب؟

كلما تناسيتها وقت دعائك وابتهالك؛ كنتَ أكثر تحقيقًا لـ(وَإِيَّاكَ ‌نَسْتَعِينُ).

وتناسي الشيء أو عدم الالتفات إليه مع إدراك وجوده شيء، ومحاولة محو إدراك وجوده شيء آخر؛ فإن محو إدراك الموجودات من الذهن عملية تشبه عملية السكر (والعجيب: أن الصوفية يعبِّرون عنها بهذا اللفظ فعلًا، ثم ينقمون على مَن اعتبر هذا من جنس سكر المسكرات؛ لكونه يشترك معها في تغييب العقل، أو تغييب أحكامه).

ويتضح هذا بالسؤال التالي: هل أنت عبد وحدك مع الحق إلهك؟

لا، بل يكمل المشهد بصلاة الجماعة، والكلام بضمير الجميع (‌نَعْبُدُ)، ويكمل برؤية المؤمنين عبر الزمان والمكان (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، ويكمل برؤية المنحرفين؛ براءة من انحرافهم فتطلب طريقًا مغايرًا لطريقهم (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

فالإخلاص والتوكل، والاستعانة والإنابة، أعمال قلبية لا تتم إلا برؤية المشهد كما هو، بلا غياب شيء منه، بل يبقى الإدراك كما هو، ولكن يمتلأ القلب تقربًا لله، وتوكلًا عليه، واستعانة به، وأما عدم ملاحظة مدح الخلق وذمهم، وعدم اعتماد القلب على ما في أيديهم، فلها مسمياتها القرآنية والنبوية، ولها أحوالها العقلية والقلبية، تستحضر فيها الصورة كاملة، ويوجه القلب إلى ما ينبغي أن يوجه إليه.

ولكن ماذا لو سُمِّي هذا القَدْر المنضبط شرعًا فناءً؟

ولماذا لا يكون للزهاد والعباد مصطلحاتهم، كما اصطلح الفقهاء على تسمية الأحكام، وتقسيمها إلى: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، وركن، وشرط، و...؟

قد تكون الإجابة المتعجلة هي: "لا مشاحة في الاصطلاح"، ولكن تجربة الأمة مع انحرافات الصوفية تثبت أن الأولى -إن لم يكن الواجب- في هذه الأبواب هو إعمال قاعدة: "سد الذرائع".

الفناء الصوفي القفزة الأولى نحو هاوية الانحرافات الكبرى:

لما غلب مصطلح الفناء ظن البعض أن أفضل أحواله أن يذكر ربه حتى لا يرى إلا ربه، ويسمونه: "الفناء عن شهود السوى"، فيذهل عن كل الخلق، بل عن نفسه، ويستحضر عظمة ربه، وقد تقدَّم أن الفاتحة "السبع المثاني" نموذج يبيِّن لنا أن التدبر الصحيح للقرآن ينافي حالة الفناء تلك.

فـفيها: "الحمد لله" على أسمائه وصفاته، وعلى نعمه وآلائه، فتحتاج إلى تذكر تلك النعم.

وهو "رب العالمين"، فلا يتصور ذلك إلا باستحضار الخلق، وأن الحق هو ربهم.

وهو "مالك يوم الدين" يوم الحساب، فلا بد من استحضار الخلق الذين سيُحاسبون.

ولكن حتى مَن قال إنه يفنى مع خالقه دون أن يتكلم بما لا يجوز شرعًا، فما زال الأمر محتملًا.

حكم مَن اهتم بالزهد -ولو مع شيء من الغلو- أو سمَّى الإخلاص والتوكل فناءً، أو كان غرضه من الذِّكر أن يملأ ذكر الرحمن قلبه وأن يتناسى الكل حتى نفسه:

هؤلاء قال في شأنهم شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ لَمْ يَخْرُجُوا فِي الْأُصُولِ الْكِبَارِ عَنْ أُصُولِ (أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ)، بَلْ كَانَ لَهُمْ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالدُّعَاءِ إلَيْهَا، وَالْحِرْصِ عَلَى نَشْرِهَا، وَمُنَابَذَةِ مَنْ خَالَفَهَا، مَعَ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ مَا رَفَعَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَارَهُمْ، وَأَعْلَى مَنَارَهُمْ، وَغَالِبُ مَا يَقُولُونَهُ فِي أُصُولِهَا الْكِبَارِ جَيِّدٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِي كَلَامِهِمْ، وَكَلَامِ نُظَرَائِهِمْ، مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَرْجُوحَةِ، وَالدَّلَائِلِ الضَّعِيفَةِ؛ كَأَحَادِيثَ لَا تَثْبُتُ، وَمَقَايِيسُ لَا تَطَّرِدُ، مَعَ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (مجموع الفتاوى).

القفزة الثانية (ظاهرة الشطح الصوفي): الغلو في الحب والفناء، ومِن ثَمَّ التكلُّم عن الله بضمير المتكلم:

حدث لدى بعض العُبَّاد غلو في عبادة محبة الله -تعالى-، فقال قائلهم: "اللهم إني أعبدك ليس خوفًا من نارك، ولا طمعًا في جنتك، ولكنك إله تستحق العبادة"، وهي عبارة تردد كثيرًا في كتب الصوفية، وهم ينسبونها إلى رابعة العدوية، والأقرب براءتها منها؛ لأننا نعلم أن الصوفية بحثًا عن علوِّ السند يحاولون نسبة بدعهم إلى أجيال سابقة.

فادعوا أن علمهم منقول بالسند عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وكل منهم يختلق سندًا ينتهي إليه -رضي الله عنه-، ويزعمون أنه مسلسل بتسليم كل شيخ خرقة لتلميذه، وهي أسانيد فيها ما فيها من الخلل؛ على أنها لو صحَّت لما نفعتهم، فلا يوجد في الدين أن يقول قائل: إنه تلقى علومه بسندٍ عارٍ من أي متن ينتهي بقول أو فعل أو تقرير للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وبل ولا يذكر فيه شيء من قول أو فعل أو تقرير عن صحابي أو تابعي أو أي أحد!

ووجود المحدثين وضبط الروايات عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن الصحابة والتابعين، جعلهم لا يجرؤون على تزييف نسبة الأقوال إلا لمن دون ذلك، حتى انتسابهم إلى الحسن البصري وإن شجعهم عليه اهتمامه بالزهد فلم يقدروا معه أن ينسبوا إليه من أقوالهم وقصصهم، ولكن نسبوا إلى رابعة العدوية، وإلى إبراهيم بن أدهم، وغيرهما -كما سيأتي بإذن الله-.

المهم أن هذه العبارة هي من عبارات الصوفية، وليست من عبارات رابعة العدوية، ولا شك أن عبادة حب الله هي آكد عبادات القلب، ولكن لا بد معها من خوف ورجاء، وقد قال -تعالى- عن أنبيائه ورسله: (وَيَدْعُونَنَا ‌رَغَبًا ‌وَرَهَبًا) (الأنبياء: 90)، ولكن تخيل أن شخصًا يرى أن العبادة القلبية الرئيسية هي حب الله والشوق إليه، وأن التعبير عن الحب يكون بكثرة الذكر طلبًا للفناء عمَّا سوى الله.

فماذا يمكن أن يحدث له؟

زين الشيطان لكثيرٍ منهم: أن الله أَذِن له يتحدث عنه بصيغة المتكلم، فيقول: "سبحاني سبحاني...! ما أعظم شاني!"، ويرى أن هذا هو غاية المنتهى من العشق الإلهي!

وهي كلمة لا يشك مسلم -بل عاقل- في أنها عين قول فرعون: "أنا ربكم الأعلى"، بل كلمة فرعون التي عدَّ بسببها كافرًا ملعونًا في القرآن كانت أهون، ولكن سرعان ما يفيق القائل من حال الفناء لينكر ما قاله، أو -على الأقل- يفسر بأنه قاله في حال الفناء.

وهذه العبارات التي يتكلم فيها الشخص عن الله -عز وجل- بصيغة المتكلم في حال الفناء الناشئ عن تجربة صوفية، والتي يرجع عنها إلى حالة الصحو يسميها الصوفية: "شطحات" (وهذا يعني أن كلمة شطحات في اصطلاحهم ليست كل الأخطاء، بل هي خاصة بالكلام عن الله -عز وجل- بصيغة المتكلم مع باقي الشروط).

وأما إذا قالها حال الصحو، أو ثبت عليها بعد الرجوع من الفناء إلى حالته الطبيعية، والتي يسمونها: "البقاء" (أي: البقاء في قيد جسده)، فحينئذٍ سيعتبر معتقدًا لما يقول، وهذا كفر لا خفاء فيه، ومِن ثَمَّ توصل الصوفية إلى الدفاع عن شطحات رموزهم، بأنها قيلت في حالة الفناء، لا في حالة البقاء.

ومن أوائل من رصد عليهم شطحات بوضوح وبغزارة: أبو اليزيد البسطامي، ولكن يعتذر عنه معظم المؤرخين بأن كثيرًا منها مكذوب، كما نقل الشيخ عبد الحليم محمود ذلك عن الهروي، وعن الذهبي، أو أنها في حالة السكر أو الفناء، وهو إنما يجب أن يحاكم إلى ما يقوله في حال البقاء، وذكر الشيخ عبد الحليم محمود شيئًا من الأقوال التي دعا فيها البسطامي إلى اتباع السنة، فقال: "إنه سُئِل عن الصوفي فقال: هو الذي يأخذ كتاب الله بيمينه، وسنة رسوله بشماله، وينظر بإحدى عينيه إلى الجنة وبالأخرى إلى النار، ويتزر بالدنيا ويرتدي بالآخرة، ويلبي من بينها للمولى: لبيك اللهم لبيك" (كتاب أبو اليزيد البسطامي، ص 50). ثم عقد فصولًا لعبادته وجهاده وحسن خلقه.

الحلاج وعقيدة حلول كتلك التي اعتقدها النصارى في عيسى -عليه السلام-:

يرى البعض أن الحلاج صاحب شطحات مثل أبي اليزيد البسطامي، وفي الواقع: إن الأمر ليس كذلك، فالحلاج ادعى أن الله اختاره كناسوت يحل فيه لاهوته، وبالتالي فقد ادعى في نفسه عقيدة كفرية كتلك التي يعتقدها النصارى في شأن عيسى -عليه السلام-.

والأدلة على ذلك كثيرة...

- فلو استصحبنا ما نعلمه الآن عنه بعد نشر المستشرق ماسينيون لكتابه: "الطواسين"، فإن هذا يثبت عليه التهمة تمامًا، وإن تعجب؛ فأعجب ما تجده: حال هؤلاء الذين يجمعون بين نفي التهمة عن الحلاج، والفخر بأنه موضع تقدير من المستشرقين؛ لا سيما ماسينون، فهو لم يصبح موضع تقديرهم إلا بأقواله الكفرية التي ينفيها عنه هؤلاء المدافعون!

- وكذا فإن الجنيد "وهو معاصر للحلاج"، وأبا اليزيد، والشبلي وإن كان ترتيب وفياتهم كالتالي: (أبو اليزيد البسطامي، ثم الجنيد، ثم قتل الحلاج، ثم وفاة الشبلي)، والجنيد موضع ثناء من كبار أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، والصوفية يؤكدون على أنه كان رجل صحو، وليس رجل فناء، ومن أراد منهم البراءة من مسالك الصوفية في عقيدتهم، كان ينسب نفسه للجنيد.

والخلاصة: أن الجنيد تصدَّى لشطحات البسطامي، والشبلي، بصدِّ الناس عنها، وتأويلها بأنها تصدر عنهم في حال عدم وعي.

ويقولون: إن الحلاج حاول أن ينتزع منه ثناءً عليه، ولو مقيدًا كالذي أثنى به على أبي اليزيد، فأعرض عنه الجنيد، وهذا لا يكون إلا لكونه عَلِم أن أمره أسوأ من هذا.

- ونفس الأمر ينطبق على شيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله-، والذي غالبًا ما بنى موقفه من معاصري الجنيد على موقف الجنيد منهم.

محاكمة الحلاج واستتابته وقتله:

في النهاية تمت محاكمة الحلاج واستتابته وقتله، واندثرت بمقتل الحلاج دعوته، وكان من أسباب اندثار هذا: أن الغزالي -رحمه الله تعالى- قد حمل حملة شديدة على كلٍّ مِن: الفلاسفة، والباطنية، والتي تلتقي أقوالهم مع الحلاج؛ سواء كان الحلاج قد نَقَل عنهم، أو وسوس له الشيطان بذات ما وسوس لهم به، واستمر الأمر كذلك حتى جاء السهروردي المقتول "ت 549هـ" -(يعرف تاريخيًّا باسم: السهروردي المقتول؛ تمييزًا له عن سهروردي صوفي آخر، ولكنه ليس من القائلين بالحلول والاتحاد، وهو السهروردي البغدادي "ت 632هـ")-؛ فأظهر السهروردي ما أظهره الحلاج حتى أمر صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- بمحاكمته، وتمت استتابته وقتله.

بعد السهروردي وفي خضم انشغال الأمة لما حل بها من كوراث، خرجت مجموعة جديدة ممَّن تكلموا بهذه الكفريات، ونَحَوْا ‌بها ‌نَحْوَ الاتحاد العام بين جميع الخلق وبين الله، أو الزعم بأن وجود كل المخلوقات هو عين وجود الله بخلاف الحلاج الذي زعم حلولًا واتحادًا خاصًّا من الله بجسده -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا-، وعُرِف هؤلاء بدعاة وحدة الوجود؛ منهم: ابن الفارض (ت 632هـ)، وابن عربي (ت 638هـ)، وابن سبعين (ت 669هـ)، وجلال الدين الرومي (ت 672هـ)، والعفيف التلمساني (ت 690هـ)، وعبد الكريم الجيلي (ت 826).

وقد فنَّد ابن تيمية أقوال مَن سبقه أو عاصره منهم، وبيَّن الفرق بينهم وبين أصحاب الشطحات كأبي اليزيد البسطامي، وبين من أخذ منهم عن الفلاسفة، وعمَّن أخذ بالضبط، فوافقه على تكفيرهم بعض كبار مخالفيه: كالسبكي، ودافع البعض عنهم كأشخاصٍ؛ متذرعًا بأن الكلام مدسوس عليهم، أو غيره من الاعتذارات التي تتضمن استفحاش الكلام، ومِن هؤلاء: السيوطي الذي كان خلاصة كلامه في ابن عربي "أنه خاصة الأولياء، ولكن يحرم النظر في كتبه".

ثم عرف بعدهم عصر الطرق الصوفية العملية، والتي أخذت الزهد من الزهاد الأوائل، ثم أضافت إليه تعظيم القبور والمشاهد؛ الذي نظَّرت له جماعة باطنية حرص الصوفية الأوائل على التبرؤ منها، وهي: "إخوان الصفا"، وبالطبع أخذوا التجربة الصوفية وبطقوسها، وغايتها من الوصول للفناء، ونقلوا عبارات ابن عربي وأشعار ابن الفارض، وجلال الدين الرومي، فصارت تلك الطرق محضنًا لكلِّ هذه الأفكار، وصار كلُّ منتمٍ لها، أو مدافع عنها يراها من الزاوية التي يفضل النظر منها؛ حتى إننا وجدنا صوفية يتبرؤون من الطواف بالأضرحة، والتمسح بحديدها، وطلب المدد ممَّن فيها، مدعين أن هذا دخيل على الصوفية، بينما هو يوجد ليل نهار في المساجد التي فيها أضرحة! -كما سنبيِّن إن شاء الله-.

وبالطبع مَرَّ الثناء على ابن عربي، وجلال الدين الرومي، وغيرهما، ومرَّت عبارات هؤلاء، وكل رمز صوفي يذكر لك رأيًا في كل قضايا التصوف غير الذي يذكره الآخر، ربما باستثناء المستشرقين ومَن تتلمذ على أيديهم؛ الذي يقررون بكل ثقة ووضوح: أن الحلاج اعتقد أن لاهوت الله اتحد به، كما يعتقده النصارى في عيسى -عليه السلام، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا-.

وأن ابن عربي لا سيما في كتابه: "فصوص الحكم" يؤكد ويوضح عقيدة وحدة الوجود، كما قرَّره أبو العلا عفيفي في تقديمه لـ"فصوص الحكم".

كان هذا عرضًا موجزًا لتاريخ التصوف.

وسوف نتناول في الحلقات القادمة -إن شاء الله- أهم ما يتعلق بكل مرحلة منها.

نسأل الله أن يجنب أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- البدع، ومحدثات الأمور.