الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 09 يوليه 2024 - 3 محرم 1446هـ

المؤمنون بين الاستضعاف والتمكين (2)

(من تراث الدعوة)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنستكمل قصة موسى -عليه السلام -وبني إسرائيل، قال الله -تعالى-: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ . قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ . فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ . فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (القصص:15-19).

(فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ) إذًا كان الأمر واضحًا عند موسى -عليه السلام-، هناك رجل من شيعته من بني إسرائيل، وهناك أعداء، فالتمييز حاصل (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)، ولا شك أن هذا منظر مؤلم؛ أن يرى موسى -عليه السلام- واحدًا من الطائفة المستضعفة يُضرب ويهان، ويوشك أن يقتل وهو مظلوم، وموسى -عليه السلام- لا يمكن أن يترك المظلوم وهذا هو الأصل (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) فموسى -عليه السلام- كان قد آتاه الله قوة عظيمة.

وتأمل في حال موسى -عليه السلام- الذي لم يقصد أن يقتل هذا الرجل، لم يتعمد قتله، بل كان يريد أن يدفعه فقط، وهو رجل كافر معتدٍ ظالم، ويريد قتل رجل من الطائفة المظلومة، لكن ضربه موسى -عليه السلام- ضربة كانت فيها نهايته، فكيف وَزَنها موسى -عليه السلام-؟ (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) سبحان الله! قتلُ كافر ظالم معتدٍ يريد قتل مظلوم، يكون قتله -خطأ لا قصدًا- من عمل الشيطان!

فلماذا وزنها موسى -عليه السلام- بهذه الطريقة؟!

لأن الشيطان يريد أن يدمر أمة، يدمر دعوة، الشيطان يريد أن يوقف خيرًا مستمرًا في المجتمع بوجود موسى -عليه السلام-، (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ)، وسمَّى موسى فعله هذا ظلمًا (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وفي حديث الشفاعة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي... ) (متفق عليه).

ينسحب موسى -عليه السلام- من الشفاعة لأجل هذا الموقف ويظل ذاكرًا له: (وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا)، يقول هذا في قتل نفس كافر ظالم؟! نعم؛ لأنه ترتب على قتلها فساد في الأرض، وأذى للمسلمين، وتوقف الدعوة إلى الله لسنوات بحكمة الله البالغة الذي قدَّر ذلك من عداوة الشيطان للإنسان الذي يريد أن يورده المهالك، ويوهمه أنه يفعل ذلك من أجل الدين، وبالقطع لا نشك أن موسى -عليه السلام- فعل ذلك مِن أجل الدين، ونصرة للمظلوم، ولكنها كانت عاطفة بغير رجوع إلى الشرع في هذه اللحظة خطأ لا عمدًا (وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا) مع أنه لم يقل: "نهيت عن قتلها"؛ فكيف بما نُهي عنه من قتل النفوس المسلمة المعصومة؟! وكذلك النفوس المعاهَدة من غير المسلمين؟

بل سمى موسى -عليه السلام- هذا الذي صدر منه خطأ ضلالًا حين قال له فرعون: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ . وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (الشعراء:18-19)، فأجابه موسى -عليه السلام-: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (الشعراء:20)، فسماها موسى -عليه السلام- ضلالًا أي: بالنسبة لما صار إليه بعد ذلك من الحكمة والعلم.

وجاءت المرحلة نفسها بعد هذا، وقال فرعون: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ . قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:127-129).

فقارن بين الموقفين عندما قَتل موسى -عليه السلام- الذي قتل خطأ وبين التهديد الفظيع وبنو إسرائيل يقولون: (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا)، وكان الجواب: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا) فهل هذا جبن وخذلان للمظلومين؟ هل هذا تضييع للأمانة أم الحكمة البالغة؟ (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا) (الشعراء:21)، الحُكْم: العلم والفقه في الدين، حتى يعلم حكم الله في الوقائع المختلفة في المراحل المختلفة في الظروف المختلفة بتوفيق الله -تعالى-، والوحي أنزله الله لنعمل به، ليس فقط لنتعلم منه الوضوء والصلاة، بل نتعلم منه كذلك السياسة الشرعية.

وسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها نفس الأمر، فكان يمر على ياسر وسمية وعمار -رضي الله عنهم- وهم يعذبون، بل تقتل سمية -رضي الله عنها- بحربة في موضع عفتها، لكنه -صلى الله عليه وسلم- لا يملك لهم إلا أن يقول: (صَبْرًا آلَ يَاسِر فَإنَّ مَوْعَدَكُمْ الجَنَّةُ) (رواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية، وقال الألباني: حسن صحيح)، وفي الحديبية كان معه 1400 مسلم ووعد من الله: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا . سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الفتح:22-23)، ومع ذلك يقول: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) (رواه البخاري).

فلا بد من النظر إلى المآلات، وهل فيمَ نفعله تعظيم لحرمات الله أم تضييع لها، وهل في ذلك مصلحة للدين أم تضييع له؟ وقد قَبِل -صلى الله عليه وسلم- شروطًا ظالمة جائرة ليتمم الصلح الذي قال عنه عمر -باجتهاده الخاطئ في تلك اللحظة- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ؟ أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الجَنَّةِ، وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ؟! قَالَ: (بَلَى)، حق محض وباطل محض، ليس حق معه باطل، وباطل ليس معه حق، ليس معهم من الحق حتى لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال عمر: "فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ، وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا؟!" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا ابْنَ الخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا) (متفق عليه)، ويقبل -صلى الله عليه وسلم- أن يرد أبا جندل بن سهيل تنفيذًا للعهد -رغم أنهم قد يفتنونه في دينه!- وقد أتى سيرًا 17 كيلومترًا يرسف في قيوده، وهو مسجون مظلوم ينادي على المسلمين: "يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، أَتَرُدُّونَنِي إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ، فَيَفْتِنُونِي فِي دِينِي ؟!"، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ -عز وجل- جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا) (رواه أحمد بسند حسن)، ليكون الفتح المبين (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) (الفتح:1).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.