الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 30 يونيو 2024 - 24 ذو الحجة 1445هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (169) قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم بإسحاق من سورة الحجر (1)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -عز وجل-: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ . قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ . قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر: 51-??).

إن من وجوه إعجاز القرآن تكرر القصص في مواطن مختلفة، ومع وحدة الموضوع تجد أنواعًا من الفوائد الغالية، تختلف عن الفوائد التي في المواضع الأخرى، وبجمعها يكتمل المشهد الذي ينتفع به المؤمن، كل في موضعه ثم بشهود مجموع الآيات التي تتناول الموضوع الواحد، ومن هذا الأمر قصة أضياف إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من الملائكة الكرام الذين مروا عليه في طريقهم إلى قوم لوط لإهلاكهم، وبشارتهم له ولسارة -زوجته الحبيبة- التي وقفت معه من أول دعوته حين لم يسلم من قومها إلا هي وابن أخيه لوط -عليه الصلاة والسلام-، وصبرت الصبر العظيم، وضحَّت مع إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في سفره وإقامته.

فكانت المكافأة لها بعد العمر الطويل، واستبعاد الأسباب بوجود الولد منها؛ بسبب كبر سنها وعقمها، وهذا الولد المبارك الذي يكون من نسله أكثر الأنبياء.

تأتي البشارة لإبراهيم بما يسره أعظم السرور؛ لأن الولد نعمة، ولكنه نعمة أعظم إذا كان من الزوجة التي يحبها؛ التي وفَّت وضحَّت، وأحسنت عشرته، وتأتي رحمة من الله لهما على كبرهما، ونعمة يظل بها إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- شاكرًا داعيًا، شاهدًا لفضل الله ورحمته، بعيدًا عن سبيل الضالين الذين لا يفهمون سنة الله في خلقه، وحكمته في إكرامه لأنبيائه وأوليائه بعد طول البلاء، فله الحمد كما يقول، وخيرًا مما يقول عباده، لا نحصي ولا يحصي أحدٌ ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه.

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآيات: "يقول -تعالى-: وخبرهم يا محمد عن قصة ضيف إبراهيم، والضيف يطلق على الواحد والجمع: كالزور والسفر، وكيف دخلوا عليه (فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ)، أي: خائفون. وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قرَّبه لهم الضيافة، وهو: العجل السمين الحنيذ. (قَالُوا لَا تَوْجَلْ) أي: لا تخف، وبشروه بغلامٍ عليمٍ أي: إسحاق -عليه السلام، كما تقدَّم في سورة هود-.

ثم قال متعجبًا من كبره وكبر زوجته ومتحققًا للوعد: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون) فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقًا وبشارةً بعد بشارةٍ: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ)، وقرأ بعضهم: "القنطين"، فأجابهم بأنه ليس بقنط، ولكن يرجو من الله الولد، وإن كان قد كبر وأسنت امرأته، فإنه يعلم مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ.

(قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) يقول تعالى إخبارًا عن إبراهيم -عليه السلام- لما ذهب عنه الرَّوْعُ وجاءته البشرى، إنه شرع يسألهم عما جاؤوا له، فقالوا له: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)، يعنون قوم لوط، وأخبروه أنهم سَيُنَجُّونَ آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من المهلكين؛ ولهذا قالوا: (إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) أي: الباقين المهلكين" (تفسير ابن كثير).

في الآيات فوائد:

الفائدة الأولى:

بعد أن أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الآيات السابقة، أن ينبئ العباد أن الله هو الغفور الرحيم، وأن عذابه هو العذاب الأليم، وعطف عليه بأمره أن ينبئهم عن ضيف إبراهيم، وقصة ضيف إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أولها رحمة الله بإبراهيم، وبشارته له بالغلام العليم، وخاتمتها بذكر عذاب الله لقوم لوط عذابًا أليمًا؛ فهذا التناسب الجميل كأنه بيان في واقع الحياة لمغفرة الله ورحمته بعباده الصالحين، وشدة عقابه للكفار والعصاة المجرمين؛ فليعتبر أولو الألباب بذلك، وليشهدوا آثار أسماء الله وصفاته في الكون، وذلك من أعظم ما يزيد إيمانهم، ويحققه لهم كلما شاهدوا آثار الأسماء والصفات بالكون، بل هذا هو الفرق بين أهل الإيمان والذِّكْر وبين أهل الغفلة والبُعد، فإن المؤمنين يشاهدون في كل حدث يقع أمامهم من آثار أسماء الله وصفاته ما يزدادون به يقينًا وإيمانًا وعلمًا في كمال الله -عز وجل- في أسمائه وصفاته وأفعاله.

الفائدة الثانية:

في هذه الآيات التصريح بأن إبراهيم قال لأضيافه: (قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ)، وفي المواضع الأخرى ذكر أنه أوجس منهم خيفة دون أن يقول لهم: (قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ)، وفي بعضها قال: (‌سَلَامٌ ‌قَوْمٌ ‌مُنْكَرُونَ) (الذاريات: 25)، وأما في هذا الموضع؛ فهو الموضع الذي ذكر فيه إبراهيم له وجلهم، وهذا دليل لوقوع الخوف الجبلي الطبيعي من الأنبياء، والأولياء من باب أولى، وجواز التصريح بوجود هذا الخوف والوجل.

والوجل: خوفٌ فيه اضطراب القلب لما يتوقع أو يُعلَم ضرره، وقد نَهَى الملائكة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- عن استمرار هذا الخوف، بعد أن أعلموه أن الضرر لا يُتوقع به، بل هم قد أتوا لبشارته بالغلام العليم إسحاق -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-.

الفائدة الثالثة:

في الآية فضيلة عظيمة لإسحاق -عليه السلام- لوصفه بالعلم، وفيه فضيلة العلم بالله وأسمائه وصفاته، وآياته، وأمره ونهيه؛ إذ ما يُمدح به الأنبياء يكون فضله عظيمًا لكلِّ مَن اتصف به، ولو لم يكن من الأنبياء.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.