الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 15 يونيو 2024 - 9 ذو الحجة 1445هـ

مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (15) تابع الكلام حول أركان القراءة وعلاقتها بعلم القراءات

كتبه/ ياسر محمد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد أسلفنا في المقال السابق الكلام حول الركن الثاني من أركان حجية القراءة وقبولها إذا وافقت الرسم العثماني يقينًا، أو احتمالًا، وفي هذا العدد نحاول أن نعرج على مسألة متعلقة بالرسم؛ ألا وهي: حكم الرسم العثماني في المصحف.

ونعني بهذه المسألة: هل الرسم العثماني حكم توقيفي لا تصح مخالفته أم أنه حكم خاضع للاجتهاد والبحث؟

نحا بعض الأئمة؛ لا سيما مالك وأحمد إلى أن الرسم العثماني أمر توقيفي أي لا تجوز مخالفته، بل وبالغوا في ذلك حتى نسبوا هذا التوقيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونقل ابن المبارك عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال له: "ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، إنما هو توقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر كتبته أن يكتبوه بهذه الهيئة" (انتهى بتصرف من كلام ابن المبارك).

وبعضهم ذكر لهذا الرسم أسرارًا تدل على أن له معان إعجازية، ككتابة كلمات بطريقة معينة، فعلى سبيل المثال: (أييد) في قوله -تعالى-: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَ????دٍ) (الذاريات 47)، إشارة إلى المبالغة في تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء، فلا تشبهها قوة، وقد تعرض هنا شبهة في هذه الآية، وهذه الشبهة: لماذا جاءت كلمة أيد بالجمع؟

بداية، نحن نثبت صفات الله دون تعطيل أو تمثيل، والجواب أن كلمة الأيد هنا ليست جمع يد، وإنما هي مصدر من آد -يئيد- أيدًا، مثل باع بيعًا، ومعناها القوة كما رواه الطبري عن ابن عباس، وسفيان الثوري، وقتادة، وقال أبو حيان في البحر المحيط: "بأيد أي: بقوة"؛ قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة وهو كقوله -تعالى-: (دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ) (ص: 17).

وقد خطَّأ الشيخ الأمين الشنقيطي، وابن عثيمين -رحمهما الله تعالى- من جعل الأيد هنا جمعًا لليد، قال ابن عثيمين: "لم تضف الأيد هنا إلى الله. كما في قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا) (يس: 71).

وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "إن ما أضيف إلى اسم الجمع ظاهرًا أو مضمرًا، فالأحسن جمعه مشاكلة للفظ"، ومثَّل لذلك بجمع العين واليد: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ) (القمر: 14)، واليد كما في الآية في سورة يس.

وبعد عرض القول الأول في مسألة الرسم نستطيع القول بأنه لم يرد فيه شيء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما اصطلح الكتبة على هذا الرسم في زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إذ قال للكتبة في زمانه: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من الوحي فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم".

وعندما اختلفوا في كتابة: (التابوت) فقال زيد: (التابوه)، وقال النفر الذين معه: (التابوت)، فرجعوا إلى الخليفة فأقر ما قاله النفر، وقال: "إنما أنزل على لسان قريش".

قلت: ما فعله عثمان يدل على أن الرسم ليس توقيفيًّا؛ لأنه لو كان كذلك ما قال لهم: "لو اختلفتم أنتم وزيد".

الرأي الثاني: أن الرسم ليس توقيفيًّا، ولكن هذا ما رآه الخليفة الراشد عثمان -رضي الله عنه- وتلقته الأمة بالقبول فلا تجوز مخالفته، وهذا الرأي عليه الكثيرون من العلماء.

قال أشهب: "سئل مالك: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ قال: لا، إلا على الكتبة الأولى". رواه أبو عمرو الداني في (المقنع) ثم قال: "ولا مخالف له من علماء الأمة، وقال في موضع آخر: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف، أترى أن تغير من المصحف؟ قال: لا"، وقال أبو عمرو: يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم نحو (أولوا) وقال أحمد: "تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك".

الرأي الثالث: قالوا بأن الرسم اصطلاحي، ولا مانع من مخالفته، عندما يصطلح الناس على رسم إملائي قد شاع بينهم.

قال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه (الانتصار): "وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئًا"؛ إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف، وليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب ذلك؛ ولذلك اختلفت خطوط المصاحف فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه أن هذا اصطلاح.

قلتُ: أما باب الكتابة، فالأمر فيه واسع بخلاف باب القراءة، فالأمر فيه محدود ومنضبط، وأضرب لذلك مثالًا في قوله -تعالى- في سورة النمل: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ . لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) (النمل:20، 21)، فكلمة: (لَأَذْبَحَنَّهُ) رسمت هكذا، فقراءتها تختلف عن كتابتها، ومن أراد مزيدًا من هذا فليرجع إلى كتاب: (المقنع) لأبي عمرو الداني، وممَّن قال بأن الرسم أمر اجتهادي العلامة ابن خلدون، وقد أوضح ابن جرير الطبري أنه لا تجوز مخالفة الرسم. 

والخلاصة: أن المسألة خلافية، فالجمهور على عدم جواز المخالفة للرسم العثماني، وقد ذهب إلى جواز المخالفة عز الدين بن عبد السلام، لكنه شرط المحافظة على الرسم، وكذا الباقلاني وابن خلدون.

قلت: والذي تطمئن إليه النفس، ويوافقه العقل، ويتفق مع مصالح الناس من حيث التيسير والتخفيف، ويعد من باب المصالح المرسلة، ما فعله عثمان -رضي الله عنه- من قوله للرهط الذين كتبوا المصحف أن يكتبوه بلغة قريش، ولكن قول الجمهور له حظ من الوجاهة، وهذا فيه وضع السياجات لحفظ القرآن والحذر من وقوع تحريف في الألفاظ ليظل قوله -تعالى- محكمًا: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، وفيه الاقتداء بالصحابة -رضي الله عنهم-.  

وللحديث بقية -إن شاء الله-.