كتبه/ طلعت مرزوق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الاختلاف غير السائغ المذموم:
وهو ما خالف نصًّا -ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا- من كتاب أو سنة صحيحة، أو إجماعًا، أو قياسًا جليًّا لا يُختلف فيه؛ سواء في الأمور الاعتقادية أو في الأحكام بين الفقهاء.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
قال الشاطبي -رحمه الله-: "وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات؛ إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعًا... ثم قال: ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المختلفة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة (الاعتصام).
من أسباب الخلاف غير السائغ:
1- ظهور رؤوس الضلال الدعاة على أبواب جهنم.
2- الجهل ونقص العلم وظهور البدع واختلاف المناهج.
3- التعصب المذموم للأسماء والأشخاص وضعف الولاء على الكتاب والسنة.
4- البغي والتنافس على الدنيا ورئاستها.
ومن أمثلة الخلاف غير السائغ في الأمور الاعتقادية التي يكفر فيها المخالف: غلاة النفي والتعطيل في أسماء الله وصفاته: كالباطنية، وغلاة الجهمية، والحلولية والاتحادية، وغلاة القدرية وغلاة الجبرية وغلاة الرافضة، ومن يعتقدون أن الشريعة الإسلامية غير صالحة مطلقًا أو لهذا الزمان، ومن يعتقد بمساواة الملل.
ومن أمثلة ما يُبدَّع فيه المخالف بالاتفاق، ويُختلف في تكفيره عينًا: المعتزلة الذين يثبتون الأسماء وينفون الصفات، والخوارج الإباضية، وفرق التكفير بالكبائر، والروافض الإمامية الاثنا عشرية، والقدرية الذين يثبتون العلم والكتابة، وينفون المشيئة وخلق أفعال العباد، والتصوف القبوري.
ومن أمثلة ما يُبدَّع فيه المخالف، مع الاتفاق على عدم تكفيره: الزيدية، والأشاعرة والماتريدية، وجماعات من التكفير والهجرة تُنكر أن الله لا يعذب أحدًا قبل بلوغ الحجة.
ومن أمثلة الخلاف غير السائغ في المسائل العملية: القول بجواز ربا الفضل، أو شرب النبيذ المسكر من غير عصير العنب، أو نكاح المتعة، أو صحة النكاح دون ولي، أو تحريم الذهب المحلق على النساء، أو جواز المعازف وسماعها، وتصوير ذوات الأرواح إذا لم يكن للصورة ظل وغير مجسمة (الرسم باليد)، وغير ذلك.
بيد أننا لا نذم من اجتهد فأخطأ من العلماء، ونقول: (إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ) (رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر، وصححه الألباني). ونقول: شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وقولهم إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح... ثم قال: وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟! وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تُنكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا... " (إعلام الموقعين).
مع العلم بأن تبديع المتأول المعين أو تفسيقه في مسائل يضعف فيها الخلاف، لا بد فيه من إقامة الحجة وإزالة الشبهة.
الموقف الذي نراه في فقه الخلاف:
- اختلاف التنوع: ينبغي استثماره، والتعاون عليه؛ لأنه بالتكامل فيه يتم الواجب، ويتحقق المقصود.
- اختلاف التضاد السائغ: ينبغي ضبطه واحتماله، وأن يسعنا ما وسع سلفنا الصالح.
- اختلاف التضاد غير السائغ: ينبغي علاجه بإنكار البدع والضلالات، والاجتماع على منهج أهل السنة والجماعة، والعمل على نشره بتفاصيله.