كتبه/ طلعت مرزوق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
النوع الثاني من أنواع الخلاف: اختلاف التضاد:
وهو أن يكون كل قول من أقوال المختلفين يُضاد الآخر، ويحكم بخطئه أو بطلانه، كأن يقول البعض في الشيء الواحد بحله، والبعض بحرمته، من جهة الحكم، لا من جهة الفتوى. ووقوع هذا النوع من الاختلاف في الملل والعقائد والأديان من المعلوم بالضرورة، والمجمع عليه بين المسلمين.
وأما وقوع اختلاف التضاد بين المسلمين، وأن الحق واحد في قول أحد المجتهدين، ومن خالفه مخطئ في الأصول والفروع، في العقائد والأعمال، في الأمور العلمية والعملية، فهو الذي دل عليه القرآن والسنة وإجماع الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-؛ قال -تعالى-: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) (الأنبياء: 79)، فلو استويا في إصابة الحكم لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم معنى.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) (متفق عليه). وأما الإجماع فقد نقله ابن قدامة -رحمه الله- في "روضة الناظر".
وينقسم اختلاف التضاد إلى اختلاف سائغ غير مذموم، واختلاف غير سائغ مذموم.
الخلاف السائغ غير المذموم:
وهو ما لا يخالف نصًّا -والنص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا- من كتاب أو سنة صحيحة، أو إجماع، أو قياس جلي لا يُختلف فيه، سواء في الأمور الاعتقادية -وهذا نادر- أو في الأحكام بين الفقهاء.
من أسباب الخلاف السائغ:
- أن الشرع لم ينصب دليلًا قاطعًا على كل المسائل، بل هناك أدلة ظنية تحتاج إلى بحث واجتهاد ونظر.
- أن أفهام العباد مختلفة متفاوتة، وكذا قدرتهم على البحث والاجتهاد مختلفة أيضًا.
- اختلاف طريقة التعلم والتعليم بين علماء المسلمين في بلادهم المختلفة.
ومن أمثلة الخلاف السائغ في الأمور الاعتقادية والعملية: الخلاف في رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه، وتفضيل عثمان على علي -رضي الله عنهما-، وتفسير بعض آيات القرآن، ومنها ما يتعلق بالأسماء والصفات، كقوله -تعالى-: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة: 115). احتج بها غير واحد من علماء السلف على إثبات صفة الوجه لله -عز وجل-، وقال عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: قبلة الله أينما توجهت شرقًا أو غربًا. ونحوه عن مجاهد -رحمه الله-، فليست من آيات الصفات عندهم.
ومنه أيضًا: عصمة الأنبياء من الصغائر غير المزرية، ونبوة الخضر ومريم -عليهما السلام-، ورؤية الله في الآخرة: هل هي خاصة بالمؤمنين، أم يراه أهل الموقف جميعًا ثم يُحجب عن الكفار، أم يراه المؤمنون والمنافقون ثم يُحجب عن المنافقين؟ وتسمية أفعال الله حوادث مع الإجماع على أنها غير مخلوقة، وكثير من مسائل التكفير، كتارك الصلاة، والمباني الأربعة عدا الشهادتين تكاسلًا، وتكفير بعض أهل البدع كالخوارج والرافضة والمعتزلة.
وفي الأمور العملية والفقهية: الكثير من أمور الوضوء والصلاة، كوجوب أو استحباب المضمضة والاستنشاق، والترتيب بين الأعضاء، والنزول على اليدين أو الركبتين في السجود، واختلاف المطالع في رؤية الهلال، والتصوير الشمسي الفوتوغرافي، وغير ذلك.
وليس معنى أن في المسألة خلاف سائغ الانتخاب من الأقوال بالتشهي، بل يجب على الإنسان تحري الحق بحسب مرتبته في العلم: المجتهد يلزمه البحث والنظر في الراجح، وطالب العلم المميز يعمل بما ظهر له دليله من أقوال العلماء، والعامي المقلد يستفتي الأوثق من أهل العلم عنده.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.