الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 19 نوفمبر 2025 - 28 جمادى الأولى 1447هـ

نور الفطرة ونار الشهوة!

كتبه/ محمد صادق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فقد أودع الله في قلب كل إنسان قبسًا من نور منذ لحظة الخلق؛ نور الفطرة، وهو ميل أصيل إلى الحق، وحنين إلى الطهر، واستعداد فطري لتمييز النور من الظلمة ولو بغير تعليم.

غير أن هذا النور إن تُرِك بلا صيانة وتزكية، تناوشته نار الشهوة حتى يخبو وهجه شيئًا فشيئًا، كجمر كان يتلألأ ثم اختبأ تحت رماد الهوى.

الفطرة هي الأصل الذي خُلِق الناس عليه: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم: 30)، وكل مولود يولد على الفطر كما صح ذلك في الحديث المتفق عليه، فهي نور من الله، لكنها ليست معصومة من الانطفاء إن أُهمِلَت.

أما الشهوة فليست شرًّا في أصلها، بل طاقة فاعلة لعمارة الأرض؛ إن ضُبِطَت بشرع الله صارت زادًا للقلب، وإن أُطلِقَت بغير قيد صارت وقودًا للحريق.

لم يأمر الإسلام بقتل الشهوة، بل بتزكيتها وتوجيهها؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌وَفِي ‌بُضْعِ ‌أَحَدِكُمْ ‌صَدَقَةٌ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ) (رواه مسلم).

فالميزان الشرعي يحول الطاقة الغريزية إلى عبادة، ويوصل النور بالنار لتصيرا دفئًا لا حريقًا.

وفي المنظور النفسي، الشهوة دافع مُركَّب؛ فهي تشتبك بالحاجة الجسدية والعاطفية معًا، والكبت غير الواعي يحولها صراعًا داخليًا وألمًا، والإطلاق بلا وعي يجرها إلى الإدمان والعبودية.

القلب السليم يوازن بين نداء الجسد ونداء الروح؛ لا يلغي الرغبة، بل ينظمها ويطهر مقاصدها.

الشاب الذي يتوهم أن العفة مستحيلة، لم يَذُق بعد لذة الطمأنينة التي تعقب الانتصار على النفس؛ ذلك النصر الخفي الذي لا تصاحبه تصفيقات، لكنه يملأ القلب عزة وحرية حقيقية.

حين تُرفَع الشهوة إلى مقام المركز في الحياة، يختل ميزان المجتمع:

- تتحول العلاقات إلى تجارة.

- والأجساد إلى سلعة.

- وتُختَزَل القيم في المتعة والظهور.

- فينطفئ النور الجمعي وتشتعل نار الأخلاق.

والمجتمعات التي تُشيع التعري وتُبرر الفاحشة لا تفقد الأخلاق فحسب، بل تفقد الحياء؛ وهو أصل كل خير، وفي المقابل: المجتمع الذي يربي أبناءه على العفة لا يطفئ فيهم الغريزة، بل يهذبها ويوجهها إلى الزواج والمسؤولية والعمل الصالح؛ فتتحول الطاقة إلى بناء لا هدم.

وأخيرًا: الفطرة نور، والشهوة نار؛ ومن حكمة الله أن جعلهما في الإنسان ابتلاءً واختيارًا: أيهما يتبع؟

الطريق إلى الله ليس بقمع الرغبة، بل بتزكيتها: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس: 9-10)، فاجعل في قلبك نورًا يهذب نارك، ولا تدع نارك تطفئ نورك.

وأجمل لحظات النور تلك التي تنتصر فيها على نفسك في الخفاء؛ حين لا يراك أحد إلا الذي خلقك على فطرة نقية، ينتظر منك أن تحفظها حتى تلقاه.