كتبه/ طلعت مرزوق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنستكمل في هذا المقال الدفاع عن الإمامين خلف العاشر والكسائي.
سادسًا: كان الإمام خلف العاشر ينتحل له الأعذار، فقد وردَّ أن الكسائي كان يقرأ في شعبان، فقرأ يومًا: (أنا أكثرَ منك) بنصب أكثر. فلما فرغ أقبل الناس يسألون عن العلة، فأراد خلف بن هشام أن ينتحل له عذرًا، فقال الكسائي للناس: (أكثرُ) بالرفع. ثم قال لخلف: أيكون أحد مِن بعدي يسلم مِن اللحن؟ قال خلف: لا. (تاريخ بغداد، إنباه الرواة، غاية النهاية).
سابعًا: أما عن أقوال العلماء فيه؛ فقال الخطيب البغدادي: (كان الكسائي واحد الناس في القرآن) (تاريخ بغداد، إنباه الرواة). وقال: (كان عظيم القدر في دينه وفضله) (تاريخ بغداد). وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: (ولم يجالس أحدًا كان أضبط، ولا أقوم بها منه) (غاية النهاية). وقال الإمام الشافعي: (مَن أراد أن يتبحر في النحو، فهو عيال على الكسائي) (غاية النهاية، شذرات الذهب).
قال ابن الأعرابي: (كان أعلم الناس، وكان ضابطًا قارئًا، عالمًا بالعربية، صدوقًا) (إرشاد الأريب). وقال إسحاق الموصلي: (ما رأيتُ أعلم بالنحو قط منه، ولا أحسن تفسيرًا) (إرشاد الأريب).
قال يحيى بن معين: (ما رأيتُ بعيني هاتين أصدق لهجة مِن الكسائي) (غاية النهاية).
وتمنى الفراء أن لو بقي الكسائي حيًّا، ليستفيد مِن علمه (إنباه الرواة).
وكان صدوقًا يتحرى الصدق، لقيه الفراء يومًا كالباكي فقال له: ما يبكيك؟ قال: هذا الملك يحيى بن خالد، يوجه إليَّ فيُحضرني فيسألني عن الشيء، فإن أبطأت في الجواب لحقنى منه عُتب، وإن بادرت لم آمن الزلل. فقال له الفراء مُمتحِنًا: يا أبا الحسن مَن يعترض عليك! قل ما شئت فأنت الكسائي. فأخذ لسانه بيده وقال: قطعه الله إذًا إن قلت ما لا أعلم) (تاريخ بغداد).
قال ابن مجاهد: (كان الكسائي إمام الناس في القراءة في عصره) (غاية النهاية).
قال أبو زيد الأنصاري: (يرحمه الله، مات بموته علمٌ كثير) (إرشاد الأريب).
قال أبو عبد الرحمن المقرئ: (كان الكسائي فصيح اللسان، لا يفطن لكماله، ولا يخيل إليك يعرب، وهو يعرب) (طبقات الزبيدي).
قال ثعلب: (أجمعوا على أن أكثر الناس كلهم رواية، وأوسعهم علمًا الكسائي) (مراتب النحويين).
قال أبو بكر بن الأنباري: (اجتمعت للكسائي أمور لم تجتمع لغيره، فكان واحد الناس في القرآن، ويكثرون عليه حتى لا يضبط الأخذ عليهم، فيجمعهم ويجلس على كرسي ويتلو القرآن مِن أوله إلى أخره، وهم يستمعون، حتى كان بعضهم ينقط المصاحف على قراءته، وآخرون يتبعون مقاطعه ومباديه فيرسمونها في ألواحهم وكتبهم، وكان أعلم الناس بالنحو، وواحدهم في الغريب) (تاريخ بغداد).
قال الأزهري: (ثقة مأمون، ومختاراته في حروف القرآن حسنة) (تهذيب اللغة).
وروى ابن الجزري بإسناده عن الدوري أنه قيل له: لِمَ صحبتم الكسائي على الدعابة التي كانت فيه؟ قال: لصدق لسانه (غاية النهاية).
ثامنًا: ويغلب على ظني أن هذا الخبر، (وبعد بيان علل الإسناد والمتن) وأمثاله مما نُسِب إليه كشرب الخمر وغيره وحاشاه، إنما هو مِن وضع بعض الأصاغر مِن غلاة البصريين الذين يختلفون عن الكوفيين في منهج البحث والقياس الذي يُوضع أساسًا للأخذ عن العرب، كما وقع مِن بعض غلاة المتمذهبة في الفقه خلافًا لأئمتهم.
تاسعًا: وقد دفعني لتحقيق هذا الخبر روايةً ودرايةً، والذب عن الإمامين الجليلين: خلف بن هشام البزار، وعَلِي بن حمزة الكسائي، ما أطلعني عليه بعض الأفاضل مِن كلام أحد دعاة المنهج الصدامي، (المُباين لمنهج السلف في الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسياسة الشرعية)، على منصة إكس، حيث أورد الخبر الموضوع، ثم قال: (البزاز، يرى هارون الرشيد رجلًا من أهل الدنيا وهو الذي كان لا يفتُر عن الغزو والحج... وكان زمنه زمن عزة للإسلام والمسلمين، وزمن انبساط العلم وتوافر العلماء وإكرامهم، وزمن إنفاذ أحكام الشريعة... فما تراه قائلًا في حكَّام عصرنا، وفيمن سيَّدَهم وأجلَّهم وتمسَّح بأعتابهم، ودعا لطاعتهم وعبَّدَ النّاس لهم؟!) (انتهى كلامه).
قلتُ: وقد بدا مِن كلامه مع إيراد الخبر جهله وبغيه مِن عدة أوجه:
الأول: النقل عن الأخفش الأصغر دون تحديده، والنحاة والمفسرون إذا أطلقوا الأخفش أرادوا به الأوسط.
قال الزبيدي في تاج العروس: (والأخافش في النحاة ثلاثة: الأكبر شيخ سيبويه، والأوسط تلميذه، والأصغر أبو الحسن).
قلتُ: وأَمَّا الأَخْفَشُ الأكبر؛ فهو أَبو الخَطَّابِ عبدُ الحَمِيدِ بنُ عَبْدِ المَجِيدِ، والأَوْسَطُ هُو َأَبُو الحَسَنِ سَعِيدُ بنُ مَسْعَدَةَ. وأوثقهم الأصغر، والأوسط كان قدريًّا، رجل سوء، كما نقل الذهبي عن أبي حاتم في سير أعلام النبلاء.
الثاني: الخطأ في لقب الإمام خلف العاشر مرتين، فقال (البزاز) بالزاي، والصحيح (البزار) بالراء.
الثالث: عدم إدراكه لمنزلة وفضل الإمامين، حيث أساء لهما بهذا النقل الموضوع. ويا ليته قال حين قرأ الخبر: (لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) (النور 12)، (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (النور: 16).
الرابع: عدم تفصيل كلام السلف في ذم الدخول على السلاطين، وأنه محمول على الذي يمدحهم ويوافقهم على باطلهم، فإذا دخل عليهم بالتوجيه والإرشاد وتخفيف الشر، فليس مِن ذلك.